حين تعطش الأشجار، ويغرقها الماء
يا أصحاب الأرض! يا عشّاق الخضرة! يا من تشرق وجوهكم كلما أزهرت شتلة أو اخضرّت نبتة..!
إن للري فنا، وللماء حكمة، وللأرض لغة لا يفهمها إلا من أصغى إليها بقلبه قبل عينه. وكثير من محبتنا للنبات؛ تتحول - دون أن نشعر - إلى إساءة؛ لأننا نغرقه بالماء حين نظن أننا نسقيه رحمة وحنانا.
في هذه السطور نفتح نافذة على أكثر الأخطاء الشائعة في الري؛ تلك الأخطاء التي تُتلف الجذور، وتضعف الثمار، وتقلّص الإنتاج، وتُحزن القلب حين نرى تعب الشهور يذبل أمام أعيننا!
أكبر خطأ يقع فيه المزارعون وهواة الزراعة المنزلية هو الإفراط في الريّ؛ فالنبات ليس إنسانا يفتح فمه ليشرب؛ جذوره تحتاج إلى هواء كما تحتاج إلى الماء. فإذا امتلأت التربة بالماء انقطع عنها الهواء، فاختنقت الجذور وبدأت بالتعفن، ثم تذبل الأوراق رغم “وفرة” الماء! ولهذا تجد من يصرخ متعجبا: “أسقيها يوميا؛ ومع ذلك تموت!”
والحقيقة أنها ماتت من الغرق؛ لا من العطش.
ويكتفي البعض بترطيب السطح؛ بينما الأعماق عطشى! وهذه الطريقة تجعل جذور النبات تبقى قريبة من السطح، ضعيفة، سهلة الانكسار، لا تقاوم حرارة ولا رياحا. والصحيح هو ري عميق متباعد، يصل إلى 20–30 سم تحت التربة، ليجبر الجذور على الغوص نحو الأعماق حيث الرطوبة والثبات.
وكثيرون يسقون في حر الظهيرة، فيتبدد الماء بالتبخر؛ قبل أن يلامس الجذور، وتَصدم البرودةُ المفاجئةُ الجذورَ الساخنة، فتضعف النباتات. والصحيح هو الري صباحا أو بعد الغروب؛ حيث تهدأ الشمس وتسترخي التربة وتستقبل الماء برفق.
والتربة ليست سواء؛ الرملية تشرب بسرعة وتفقد الماء سريعاً. والطينية تحتفظ بالماء طويلا وقد تختنق فيها الجذور؛ ولذلك لا يجوز ري جميع النباتات بالطريقة نفسها. فمن يزرع في تربة طينية يسقي أقل، ومن يزرع في تربة رملية يسقي أكثر.
من يزرع في أصيص صغير يظن أنه مثل الكبير؛ فيغرقه أو يعطشه.
الأصيص الصغير يسخن سريعا ويفقد الماء بسرعة، بينما الكبير يحتفظ بالرطوبة أكثر؛ ولذلك يجب تعديل الري حسب حجم الوعاء؛ فالصغير يحتاج مراقبة أدق.
وأسوأ عادة الريُّ بالتقليد، لا بالفحص؛لمسة بإصبعك للتربة، أو عصا صغيرة تختبر العمق، تخبرك بأكثر مما يخبرك المنظر الخارجي؛ فإذا كانت التربة رطبة من العمق فلا حاجة للري مطلقا.
النبات قد يبدو جميلا من فوق؛ بينما الجذور تصرخ من التعفن في الأسفل.
وكثير من الأمراض – كالذبول واصفرار الأوراق سببها خلل الجذور بسبب خطأ في الري؛ ولهذا يجب على المزارع أن يتذكر دائماً: صحة النبات تبدأ من الجذور، لا من الأوراق.
والرطوبة على الأوراق قد تسبب فطريات، والماء الحقيقي الذي تحتاجه النبتة فيجب أن يصل إلى التربة لا إلى الورق.
نباتات الظل ليست كالشمس والنباتات العصارية ليست كالورقيات، والأشجار المثمرة ليست كشجيرات الزينة... لكل نبات جدول عطش خاص، ومن الجهل الزراعي أن نسقي الجميع بجدول واحد.
يظن البعض أن أي اصفرار أو ذبول سببه العطش؛فيسقي أكثر! بينما قد يكون السبب هو نقص عناصر، حرارة مرض فطري أو تعفن جذور؛ بسبب الري الزائد.
الماء ليس علاجا لكل شيء؛ أحيانا يكون هو المرض نفسه.
النبات يكلّمك؛ لكن بلغة الصمت. ورائحة التربة حين تجف أو حين تتخمّر تخبرك بموعد الري. ولون الورقة، وملمس الساق، ودرجة حرارة التربة... كلها رسائل لا يقرأها؛ إلا من أحب الأرض حقا.
ليس الهدف أن نسقي كثيراً؛ بل أن نسقي بحكمة. وليس المطلوب أن نروي النباتات بالماء؛ بل أن نرويها بالفهم. وما أجمل قول أهل الزراعة:
"النبات لا يريد ماء كثيراً؛ بل وقتاً كافيا ليشرب"!
فاسقوا النبات بالرفق؛ يحبّكم، ويثمر لكم، ويخضرّ وجه الأرض بكم.
دامت أراضيكم عامرة بالخضرة، ودمتم سالمين!


