وجه واحد وحياة واحدة

بقلم: حسن الكنزلي


في زحمة الحياة وتناقضاتها؛ لا شيء يهدد صفاء أرواحنا كما تفعل أمراض القلوب الخفية؛ تلك التي لا تُرى بالعين! لكنها تنخر في الضمائر حتى تُفسدها. ومن أخطر هذه الأمراض: التلوّن، والازدواجية، وذو الوجهين؛ ذلك النموذج الإنساني الذي يُظهر ما لا يُبطن، ويبتسم وهو يخفي وراء ابتسامته خنجرا مسموما.
وقد صوّر النبي ﷺ هذه الشخصية بأشد صورة حين قال: «تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».
إنه أسوأ الناس؛ لأنه لا يعيش بوَجه واحد، ولا يحمل قلبا واحدا، ولا يُقيم وزنا لصدق أو عهد...

ذو الوجهين هو الشخص الذي يتفنن في ارتداء الأقنعة؛ فإن كان مع أهل الخير تظاهر بالصلاح. وإن خالط أهل الباطل وافقهم على باطلهم. قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾.
وليس هذا من المداراة التي هي حسن خلق؛ بل من المداهنة التي تهدم الدين. قال الحسن البصري: «المؤمن يُداري ولا يُداهن، والمنافق يُداهن ولا يُداري».
أما الرفق واللين فهما خُلق الصالحين، لا علاقة لهما بهذا المكر؛ فالرفيق واضح، شفاف القلب، أما ذو الوجهين فخيانة تمشي على قدمين.
لقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه كلمة تستحق التأمل: «إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها». كيف يكون وجيها وهو لا يملك وجها ثابتا أصلا؟!

ذو الوجهين لا يفسد نفسه فقط؛ بل يُفسد المجتمع من حوله؛ فهو يثني على الناس في حضورهم، ثم يطعنهم في غيابهم. يمدح هنا، ويذم هناك. ينقل الكلام، ويغذي الخصومات، ويشعل الفتن.
وما إن ينتشر هذا المرض حتى تتساقط الثقة بين الناس، وتنهار العلاقات، وتضيع المروءات. وقد قال النبي ﷺ محذرا: «من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له لسانان من نار يوم القيامة». إنه ليس خُلقا سيئا فحسب؛ بل جريمة أخلاقية تهدم المجتمعات؛ قبل أن تهدم أصحابها.

وذو الوجهين ليس مطمئنا من داخله؛ يعيش صراعا لا ينتهي:
- يريد رضا الجميع؛ فلا يرضى عنه أحد.
- يخشى كشف قناعه؛ فيعيش خائفا دائما.
- يتشكل مع كل ريح؛ فيفقد هويته شيئا فشيئا.
- إنه عبد للظروف؛ لا عبد لله.
وحين تسري هذه الروح في مجتمع ما؛ تصبح الثقة عملة نادرة، والقلوب متوجسة، والعلاقات هشة قابلة للكسر عند أول اختبار.
وهكذا يتحول المجتمع إلى مساحة من الشك والريبة، تُهدم فيها الروابط الأسرية والاجتماعية، ويتحول القريب إلى غريب، والصديق إلى خطر محتمل.

هذا المرض لم يبقَ في صفحات التاريخ؛ بل نراه كل يوم حولنا:
- في المجالس؛ يمدح في وجهك، ويطعن في ظهرك، يضحك معك، ويهدمك حين تغيب.
- في بيئة العمل؛ يُظهر الولاء للرئيس، وحين يبتعد، كان أول من يطعنه أو يشي به.
- في الأسرة؛ ينقل الكلام بين الإخوة، يزرع الفتنة بينهم، ويتلذذ بتمزيق ما جمعه الله من مودة ورحمة.
- في الإعلام والسياسة؛ من يغيّر رأيه ومواقفه كما تتغير الرياح؛ يرفع شعارا اليوم وينكره غدا، بلا ثبات على مبدأ ولا وضوح في موقف.
وهذه الصور جميعها ليست سوى فروع لشجرة خبيثة واحدة؛ شجرة النفاق.

والعلاج يبدأ من الداخل؛ من القلب ذاته:
- مراقبة الله في السر والعلن؛ فحين تستقر في القلب حقيقة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، يسقط الوجهان، ولا يبقى؛ إلا وجه الحقيقة.
- التمسك بالصدق؛ فالصدق يحفظ صاحبه من التلوّن، ويوجهه نحو الثبات. وقد قال ﷺ: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة».
- الإخلاص؛ فمن أخلص لله؛ لم يحتج إلى إرضاء الناس بتلوّن أو نفاق.
- صحبة الصالحين؛ فالأصدقاء الصادقون يصنعون قلوبا صادقة.
- الدعاء بالثبات؛ فالنبي ﷺ كان يدعو: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك».

الوضوح نعمة، والصدق راحة، والوفاء حياة؛ أما التلون فخيانة، والغش سقوط، وذو الوجهين شر الناس؛ فلنحرص جميعا على أن نكون ممن وصفهم الله بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
إنها دعوة لأن نعيش بوجه واحد، وقلب واحد، وحياة واحدة؛ لا ازدواجية فيها ولا رياء.
بهذا وحده تُبنى المجتمعات، وتزدهر القلوب، وتسمو الأرواح.
سلم الله قلوب الجميع من النفاق، ودمتم بمعافاة الله!