حين يكون التفكير عبادة
حين يتحدّث الناس عن "البحث العلمي"، يتبادر إلى الأذهان صور المختبرات، والمعادلات، والمجاهر، والنظريات المعقّدة... وربما يظنّ البعض أن العلم المخبري لا شأن له بالوحي، وأن المختبرات لا تلتقي مع المحاريب؛ لكنّ الحقيقة الكبرى التي غفل عنها كثيرون أن أول كلمة في القرآن لم تكن صلاة، ولا زكاة، ولا صوما... بل كانت أمرًا معرفيا هائلا: ﴿اقْرَأْ﴾!
نعم، أول صوتٍ إلهي سُمِع في صحراء مكة لم يأمر بسجود ولا ركوع؛ بل أمر بعقلٍ متسائل، يبحث، ويقرأ، ويستكشف.
القرآن ليس مجرد كتاب تشريعا؛ بل هو كتاب تفكير مفتوح، يأمرنا أن ننظر، ونتفكر، ونتدبّر، ونقارن، ونفكّر في التاريخ، والإنسان، والنفس، والكون: ﴿أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا﴾... أليس هذا هو جوهر البحث العلمي؟ النظر، التأمل، التساؤل، التجريب، الفهم؟
إن القرآن لا يرفض العقل؛ بل يرفض أن يُجمَّد العقل. لا يعارض التفكير؛ بل يعارض التسليم الأعمى. إنه يشحن الإنسان بأسئلة كونية تجعله عالِما في محرابه، وعابدا في مختبره.
في الثقافة القرآنية، ليس العالِم مَن يحفظ فقط؛ بل من يبحث عن الحقيقة، ويخشى الله بعِلمه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
والعلمُ في القرآن لا يُفصل عن الأخلاق، ولا يُنتزع من رحم الإيمان. هو علم لا يغتر، ولا يُدمّر، ولا يفسد؛ بل يقود إلى إصلاح الإنسان والأرض معا.
حين آمن المسلمون أن "التفكير عبادة"؛ بنوا حضارة علمية أدهشت العالم! فلم تكن صدفة أن يتصدّر المسلمون علوم الفلك، والطب، والهندسة، والجبر؛ لأنهم تربّوا على كتاب يقول لهم: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾
فاستجاب الرازي، وابن الهيثم، والبيروني، والزهراوي، وابن النفيس، وجعلوا من الملاحظة والتجريب والتفكر، أعمالًا تقرّبهم إلى الله.
وسقطت الأمة حين حُوصر العلم في زوايا الجوامع، وفُصلت الآية عن المختبر، واعتُبر الدين خُرافة والعلم عدوًا؛ فظهرت فجوة بين "العالم الشرعي" و"العالم الطبيعي"، بين "الشيخ" و"المهندس"، وكأنما لا يجتمع القرآن مع الهندسة، ولا الشريعة مع الفلك!
لكن الحقيقة التي لا بد أن تُقال: أن الدين الذي لا يحفّز على البحث العلمي؛ ليس من روح القرآن، والعلم الذي لا يتخلق بأخلاق الوحي؛ ليس من حضارة الإسلام.
والقرآن لا يعطينا "النتائج" جاهزة؛ بل يدفعنا للبحث عنها. إنه يرسم خريطة ذهنية تجعل كل آية بوابة لبحث جديد: في النفس، في الطبيعة، في التاريخ، في المجتمع؛ ولذلك قال أحد العلماء: "القرآن ليس كتاب علم تجريبي؛ لكنه أكبر محرّكٍ للعلم التجريبي".
أيها الباحث! لا تظن أن استخدامك لعقلك ينافي الإيمان؛ بل هو من صميمه. وأيتها الطالبة! لا تعتبري العلوم الحديثة دخيلة على دينك؛ بل هي امتدادٌ لوحيٍ أمرك أن تنظري، وتتفكري، وتكتشفي.
فابحثْ؛ فإنك ما دمت تنظر بعين التعظيم لخالق الكون؛ فأنت على أثر نبي. وحقّق؛ فإنك إن أردتَ رفع الأمة، فطريقها يبدأ من مختبر أو كتاب أو سؤال.
-وأخيرا؛ في زحام القضايا، وضجيج الشعارات؛ لا تنسَ وصية السماء الأولى: ﴿اقْرَأْ﴾
إنها ليست فقط أمرا بتلاوة؛ بل بنداء أبدي لكل مسلم:
- اقرأ؛ لتنهض!
- اقرأ؛ لتفهم!
- اقرأ؛ لتبني!
- اقرأ؛ لتعرف الله في خلقه؛ لا فقط في محرابه
ودامت سلامة ألجميع!


