فن التماس الأعذار
بقلم: حسن الكنزلي
في زمن يزدحم بالانفعال، ويضيق فيه صدر الناس بأتفه المواقف؛ يبرز خُلُق عظيم، نادر، نبيل؛ خلق لا يجيده إلا أصحاب القلوب الراقية؛ خلق فنّ التماس الأعذار.
إن التماس العذر للناس ليس حركة لسان، ولا مجاملة عابرة؛ إنه عبادة قلبية خفية، تَسمو بالنفوس، وتُهذّب الأرواح، وتُقرّب صاحبها من روح النبوة؛ إذ ما انتصرت الأخلاق قط كما انتصرت يوم جعل الإسلام الستر والصفح وحسن الظن أساس العلاقات.
الإعذار أن تقول في أخيك خيرا وإن جهل، وأن تُفسّر خطأه بأجمل ما تستطيع، وأن تجعل قلبك أكبر من زلة، وأوسع من لحظة ضعف. ليس ضعفا ولا هزيمة؛ بل قوة ورجولة وحكمة، بها تُطفئ نار الشيطان، وتحقن دم العلاقات، وتحفظ ما تبقى من ود بين الناس. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾؛ فالتثبّت مقدمة الأخلاق، والبحث عن العذر قبل الحكم عنوان الحكمة. وقال سبحانه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾؛ أي احملوا على الحسن، وافسروا على الحسن، وتحدّثوا بالحسن؛ فالحسن سبيل الحسن.
أما النبي ﷺ فكان أرحم الناس بالناس، يكره أن يُملأ قلبه بالظنون، ويقول: «إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»؛ فالقلب السليم رأس مال الإنسان.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب يوم قال: “احمل لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد؛ فقل لعل له عذراً لا أعلمه”. كلمات لو عاشت في بيوتنا؛ لما انهارت علاقات، ولا تقطعت أرحام.
ونلتمس الأعذار لعدة اسباب؛ منها:
– أن الإنسان ضعيف، ينسى، يخطئ، يضطرب، يمرّ بظروف تضيق لها القلوب.
– والشيطان يبدأ خلافاته بسوء الظن، ويُضخّم الهفوة حتى تصبح معركة.
– والقلب الطيب يبحث عن العذر كما يبحث الظمآن عن الماء؛ أما المريض فيفتّش عن الزلة، ويكبرها، ويشيعها.
– ولأن التماس العذر يبني جسور الثقة والمودة؛ فالعلاقات لا تدوم بالصواب الدائم؛ بل بالصدور التي تتسع، والقلوب التي تعفو.
– ولأن أعظم مشاكل اليوم ليست في المال والرزق؛ بل في ضيق الصدور، وسوء الفهم، واستعجال الأحكام.
والناس معذورون؛ فاعرف أعذارهم؛ فهناك:
– من يخطئ جهلا؛ فيُعلَّم ولا يُدان.
– ومن ينسى؛ فالنسيان طبع الإنسان.
– ومن يزل؛ لأنه ضعيف؛ فالله خلق الناس متفاوتين في الطبع والقدرة والصبر.
– ومن يتغير وجهه؛ لا لشيءٍ سوى أن ضغوط الحياة أثقلت قلبه.
– ومن يتصرف بحدة؛ لأن طبعه كذلك؛ لا لأنه يكرهك.
فليت قلوبنا تتذكر أن ليس كل خطأ عدوا، ولا كل زلة نية سيئة.
ومهارات الإعذار فن لا يجيده إلا الحكماء؛ وحتى تجيده:
– اسأل نفسك قبل أن تغضب: هل له عذر لا أعرفه؟
– ضع نفسك مكانه: كيف كنت ستتصرف لو عشت ضغوطه؟
– افهم السياق قبل الحكم؛ فالكلمة الواحدة لها ألف تفسير.
– أجّل قرارك عند الغضب؛ فالقرارات الحارة تُطفئها لحظة هدوء.
– ميّز بين الخطأ وصاحبه؛ فالناس خير كثير مع زلات قليلة.
– وابدأ بالحل؛ لا بالتأنيب؛ فغاية المؤمن ليست الانتصار؛ بل الإصلاح.
وحين يغيب التماس الأعذار؛ يحضر الخراب؛ فسوء الظن سُم للعلاقات؛ يكبّر الهفوة، ويهدم البيوت، ويفسد القلوب، ويورث القطيعة. وكثير من الخصومات اليوم بدأت بكلمة فُسّرت خطأ، أو رسالة كُتبت بعجلة، أو صمت كان خلفه حزن؛ لا إساءة.
ووسائل التواصل كذلك صنعت فجوة هائلة في الفهم؛ كلمة بلا نبرة، وصورة بلا تعبير... وصار الشيطان أبرع مفسّر للنيات.
من يعذر؛ يستريح، ومن يعفو؛ يُحب، ومن يُحسن الظن؛ يعيش مطمئناً، ومن يفسّر أخطاء الناس بحسن نية؛ يعيش بين الناس كما يعيش الورد بين الحدائق.
الإعذار يرفع مستوى الوعي، ويبني مجتمعا متماسكا يملؤه الودّ والثقة، ويقلّل الخلاف، ويزيد الرحمة؛ ولذلك قال النبي ﷺ: «ما زاد الله عبدا بعفوٍ إلا عزا».
بال رجل في المسجد، ففزع الناس؛ إلا النبي ﷺ لم يصرخ، لم يوبخ، لم يفضح؛ بل قال: «دعوه»، ثم علمه برفق؛ فصار الرجل يقول بعد ذلك: “اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً”؛ هكذا تُهذّب القلوب.
وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً لأهل مكة؛ خطيئة عظيمة! لكن النبي ﷺ بحث عن العذر، ولم يعاجله بالغضب؛ فنجا الرجل بعذره، وبحسن ظن نبي الرحمة.
كم من بيوت انهارت، وقلوب تصدعت، ونفوس ابتعدت؛ لا لشيءٍ؛ إلا لأن أحدهم لم يلتمس عذراً! وكم من غاضب يحتاج كلمة “لعل له عذرا”! وكم من حزين ينتظر أن يفهمه أحد! وكم من صامت لو سُئل: “هل أنت بخير؟” لانطفأ نصف ألمه.
فيا أحبتي! أعذروا؛ تُؤجَروا، واعفوا؛ تُرفَعوا، وتغافلوا؛ تسعدوا! ووسعوا صدوركم؛ فالنبي ﷺ قال: “إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم”.
اجعل قلبك أكبر من الموقف، وأوسع من اللحظة، وأرحم من الغضب! فما خُلق المؤمن ليكون قاسيا؛بل خُلق ليكون نورا يمشي بين الناس.
نورني الله وإياكم من أنواره، وأسدل علينا أستاره، ودمتم سالمين!


