جيشان مديرية بلا مطاعم
كتب: أبو زين ناصر الوليدي
بعدما تخرجنا من الثانوية، ألزمتنا وزارة التربية أن نؤدي خدمة إلزامية في التدريس، ولم تكن تلك الخدمة مجانية بل براتب قدره (٢١٠٠) شلن جنوبي بما يساوي (٢٦٠٠) ريال شمالي لأنا كنا في فترة بعد الوحدة مباشرة وكان لا يزال التداول بالعملتين، المهم صدر القرار بتوزيعنا على مودية والمحفد وجيشان، فمن كان معه قريب أو صديق فقد جرى توزيعه في مودية، ومن كانت له علاقة بعيدة قليلا، جرى توزيعه في المحفد، أما الذين ليس لهم أحد فيتم نفيهم إلى جيشان التي يتهرب منها الكل ويبذل كل واحد ما يستطيع من الشفاعات والوساطات والمال حتى لا يطلع جبال جيشان الشاهقة الوعرة البعيدة، ولأنه ليس لي قريب ولا شفيع ولا أملك مالا فقد تقرر أن أكون من المنفيين إلى سيبيريا أعني جيشان، وقد كرهت ذلك كراهية شديدة، وكم دعوت الله أن يثني إدارة التربية عن نفيي إلى جيشان، ولكن كانت لله الحكمة العظيمة التي لا أعلمها وهو سبحانه القائل: *"وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"* .
فانطلقنا إلى المجهول في ليل رمضان الساعة الحادية عشرة ليلا في سيارة لاندكروزر للأخ عوض بن لشرف وكنا عددا كبيرا، أذكر منهم أنور الهاجس وعلي فضل شايف من زنجبار ومن مودية أنور قنان رحمه الله وأحمد خلب والخضر البدري والخضر العبيد المخزوم وأحمد أبوبكر جابر وعباس خليل وياسر الياسري ومعنا آخرون مسافرون من أهل جيشان، فسلك بنا السائق طريق (امبعالة) فكان يمشي في أودية لا تكاد ترى فيها أثرا للطريق ثم يتسلق بنا جبالا شاهقات ما كنت أظن أن السيارة ممكن تتماسك فيها، فكان منا من هو مستلق ومن يتقيأ ومن يمسك على رأسه ومن هو واقف يحاول يخفف عن نفسه عذابات هذه الجبال وزاد الطين بلة أن صاحب السيارة أسمعنا شريط (هادم اللذات)، ولقد بنشرت علينا السيارة ثلاث مرات، فكنا كلما نظن أننا وصلنا امتد بنا طريق، فيتهيأ لنا أن جيشان خلف هذا الجبل أو بعد هذا الوادي الذي نشقه في ظلام دامس، وهكذا نسير على الأمل، يحيط بنا الألم والتعب. حتى وقفنا مع السحر عند بدو رحل يقيمون قريبا من بئر وهناك نزلنا فقدموا لنا صحاف من العصيد والشاي والقهوة والماء، وعند البئر توضأنا وصلينا الفجر ثم انطلقنا وبدأت تظهر لنا بعض القرى والبيوتات التي تشي بقربنا من مركز المديرية، وبعد الساعة السابعة صباحا وصلنا إلى المركز، بعد رحلة طويلة من العناء والمشقة والقيء والملل والألم، وكان في استقبالنا عدد من المدرسين والعسكر أتذكر منهم مدير المدرسة خالد البرد ونائبه عبد الله علي سكر ومح مخشم رحمه الله ومجلود ومحمد عبده يحيى، ومن العسكر المرحوم علي موفجة، وعامل الإشارة شاب خلوق اسمه خرواص، هذا خرواص انتقل بعد أيام من قدومنا ولم أره من تلك اللحظة ولا أدري ما فعل الله به.
تركونا ذلك اليوم نرتاح واستقبلونا بحفاوة بالغة والتقى بنا المدير العسكري للمدرسة المقدم ناصر سالم علي المسدس الفطحاني.
كنت أنظر إلى الجبال التي تحيط بنا وبعض البيوت في الجبال التي تقف أمامنا عالية، مثل قرية املحة التي هي قرية أهل بازقامة وبيوت أهل المقيد، والذين عرفناهم فيما بعد.
جرى توزيعنا على المواد الدراسية فعينت مدرسا لمادة اللغة العربية للصفين الثامن والسابع، ومدرسا لمادة التربية الإسلامية لشعبتي الصف السادس، وهذا ما جعلني أعرف أهم الطلاب في المدرسة، ومع هذا ما من صف إلا ودخلت عندهم وتعرفت على معظم من في المدرسة، ورغم صغر سني إلا أنها تكونت بيني وبين الطلاب علاقة متينة أساسها الحب الاحترام والتقدير، وكانت هذه أول تجربة لي للخروج بعيدا عن قريتي وأول تجربة لي في الوظيفة، وحقيقة أني شعرت بمتعة كبيرة وسعادة غامرة وكأنني في عالم آخر من الأحلام والبهجة والسرور، وأحببت جيشان وأهلها وندمت أني فكرت أن لا أطلع إلى هذا المكان المختلف تماماً،
لدرجة أنني كنت أستمتع بكل لحظة في تلك المرحلة فمعظم الأيام أدرس الست الحصص كلها واستغل اي نقص أو فراغ أو غياب لأحد المدرسين وأدخل على الطلاب أجلس إليهم وحدثهم وأتعرف عليهم وأقص لهم من السيرة النبوية وقصص الانبياء وقصص السنة وقصص الصحابة والتابعين وقصص التاريخ الإسلامي وعن علامات الساعة والموت وأخبار الآخرة والجنة والنار، فكان ذلك يقع على الطلاب وقعا عظيما مؤثرا وكأنهم لم يسمعوا بهذا من قبل، وكنت أزور القرى والمزارع وأتسلق الجبال، وربما انطلقت ماشيا على الأقدام يوم الجمعة من جيشان المركز إلى قرية مرحوم وهي مسافة كبيرة نقطعها في وادي تجري فيه عيون من الماء وربما سبحت واغتسلت في ( عقلة امذيب) وربما انطلق ما شيا في غير الجمعة من جيشان إلى امحشرج ورحاب النخعين وامصيعم فضلا عن البيوت القريبة في عذمر وحاطيوس واملحة وامبتيرا وبيوت أهل لشرف، وقرية السادة ( نسيت اسمها) .
وتعرفت على الناس واختلطت بهم اختلاطا شديدا وزرت القرى البعيدة مثل وصر والصيدية وامعواسج وإلى امحقل وبيوت أهل سيار خلف رحاب النخعين،
وحيثما ذهبنا وجدنا الحفاوة والإكرام والحب الصادق والاستقبال الكريم، من الصغير والكبير وحتى من الأطفال، ومما أتذكره أننا خرجنا مرة إلى حاطيوس نتنزه في مزرعة بسيطة يزرعون فيها القمح والقضب، أظنها مزرعة ناصر امقبع لست متأكدا، فاستقبلنا طفل صغير وقال:(أهلا وثهلا بالمدرثين) بالثاء وليس بالسين.
وكانت معي عشرين شلن بقيت في كمري مدة طويلة ولم أصرف منها شلنا واحدا، فحيثما ذهبت تجد الطعام والشاي والقهوة، الكل يتسابق ليقدم للضيف الطعام، ولهذا فهمت لماذا لا يوجد في هذه المديرية أي مطعم؟ ومن يحتاج إلى المطعم وكل بيت من بيوتهم مطعم يقدم وجبات مجانية، ولم يكونوا يسمحون لنا بالتخلف عن أي وليمة سواء كان عرسا أو موتا أو أي مناسبة أخرى.
أناس مذهلون كأنهم من عالم آخر رأيت فيهم ما كنت أقرأه في كتب الأدب والتاريخ من الكرم والشهامة والنجدة والمروءة، وكأنهم نسخة واحدة مطبوعة من الجود والشمائل الكريمة والأخلاق الرفيعة.
أحببت جيشان وتعلقت بها وبأهلها وانطبعت في قلبي ووجداني وخيالي حتى أني قلما أطلب إجازة للذهاب إلى أهلي، فقد كانوا بحق لنا أهلا.
وكنت أحيانا بعد العصر أصعد الجبل الذي يعلو جيشان من جهة الشمال وأجلس أقلب بصري في الجبال والقرى والأودية حتى توشك الشمس على الغروب فأهبط إلى المسجد لصلاة المغرب، وفي المسجد تعرفنا على الكثير من الصالحين والعباد والطيبين من الصغار والكبار، ومن أجمل ما ترى في المسجد أن الرجل يدخل إلى المسجد بسلاحه فيعلق بندقيته في خوازيق في الجدار الخلفي للمسجد ويصلي مطنئنا،فاذا انصرف من صلاته سحب سلاحه ومضى، ولا يدور بخلده أن يدا ممكن تمتد إلى سلاحه أو ذخيرته.
كيف لا تستهويني جيشان وأهلها أهل الأمانة والشهامة والمكارم، والذي نفسي بيده أنني أحببتها حبا كبيرا ورأيت فيها أمة من الناس لا تزال على الفطرة النقية الصافية وكأنهم من القرون الأولى التي لم تلوثها الحضارة، وأعتبر تلك السنة من أجمل سنوات عمري، وأعد نفسي لو لم أذهب إلى جيشان قد فاتني شيء عظيم وتجربة ثرية.
ورغم مضي أكثر من ثلاثين سنة على تلك المرحلة إلا أن العلاقة مع طلابي ومع بعض الأهالي ولا تزال تتجدد وكأنها بالأمس، وبعض طلابي أصبح يحمل شهادة الدكتوراه وبعضهم مغترب وبعضهم شق طريقه في الحياة إلا أن حبال الود بيني وبينهم متينة، حتى أن منهم من يزورني للبيت في عدن ومنهم من استقبل أولادي حين ذهبوا إلى العمرة وأكرمهم تكريما لي.ومنهم من يتواصل معي.
ومما أتأسف له أني لم أتمكن من زيارة جيشان ولم ألتق بعض طلابي من تلك الأيام .
وفي الأخير هذا غيض من فيض مما بقي في ذاكرتي عن تلك الأيام.
.