لغة القرآن: هوية أمة وروح حضارة مقالة بمناسبة اليوم العالمي للعة العربية
بقلم: حسن الكنزلي
ليست اللغة العربية حروفا تُنطق، ولا ألفاظا تُتداول؛ بل هي شرف اختاره الله، ووعاء اصطفاه لرسالته الخالدة؛ فقد شرّف الله العربية بأن جعلها لغة القرآن الكريم، وكفى بذلك مجدا لا يزول، ووساما لا يبهت. إنها لغة الوحي، ولسان الدين، وعنوان الهوية، وجسر العبور إلى فهم الإسلام فهما صحيحا عميقا.
لقد اختار الله العربية لكتابه العظيم، فقال جلّ شأنه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
وما كان هذا الاختيار عبثا؛ بل لأن العربية لغة واسعة الأفق، دقيقة البيان، قادرة على حمل المعاني العميقة بألفاظ موجزة، وصياغات بليغة، لا يضاهيها لسان.
ومن وعي السلف بقيمة العربية، ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «تعلَّموا العربية فإنها من دينكم»؛ إذ بها يُفهم الوحي، وتُدرك العقيدة، ويُستوعب التشريع. فالعربية لم تكن يوما ترفا ثقافيا؛ بل كانت ضرورة دينية وحضارية.
وقد تغنّى الشعراء بجمال هذا اللسان؛ فقالوا في مدحه: إن العربية إذا نطقت؛ أشرقت، وإذا حملت القرآن؛ أضاءت الزمان؛ فهي لغة تجمع بين صفاء اللفظ وعمق المعنى، وتمنح الفكر جناحين من بيان وبلاغة.
نشأت العربية في جزيرة العرب، ممتدة الجذور في اللغات السامية، ثم بلغت أوج اكتمالها مع نزول القرآن الكريم، الذي وحد لهجاتها، وقعّد أصولها، وجعلها لغة أمة؛ لا لغة قبيلة. ومع اتساع الدولة الإسلامية؛ انفتحت العربية على ثقافات الأمم، فاستوعبت المصطلحات، واحتضنت العلوم، وأصبحت لغة الفكر والحضارة.
ولم يكن إعجاز القرآن بيانيا فحسب؛ بل كان صيانة للغة ذاتها؛ إذ ظل يُتلى ويُحفظ، فتُحفظ معه العربية، جيلا بعد جيل. قال تعالى متحدّيا الإنس والجن: ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾؛ فلم يجد العلماء كلمةً في القرآن يمكن استبدالها بأخرى تؤدي المعنى ذاته بالجمال نفسه.
في العصور الإسلامية الزاهرة، كانت العربية لغة العلم والمعرفة. كُتبت بها كتب الفقه والتفسير والحديث، ودُوّنت بها علوم الطب والفلك والرياضيات. ومن رحمها خرجت مصطلحات خالدة كـ«الجبر» و«الكيمياء». وقد أدرك العلماء قدرتها على استيعاب العلوم، حتى قال ابن سينا إن العربية تفي بحاجات كل فن يُبحث فيه.
ولأنها لغة الوحي، كانت كذلك لغة السنة النبوية، بها خُوطب الصحابة، وبها نُقلت تعاليم الإسلام. ومن أراد التفقه حقًّدا، فلا غنى له عن العربية؛ فهي مفتاح النص، ومفتاح الفهم.
وعاء التراث وجسر الحضارة
حفظت العربية تراث الأمة، وحملت علومها عبر القرون. ومنها انتقلت المعارف إلى العالم، فكانت العربية يوما لغة عالمية. وقد عبّر عن ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي حين ربط بين اللغة والإيمان، مؤكدا أن من نال العربية نال نصيبا من روح هذا الدين.
اليوم، تواجه العربية تحديات جساما؛ ضعف تعليمها، هيمنة العاميات، وزحف اللغات الأجنبية. وقد صرخ حافظ إبراهيم بلسان العربية قائلا:
«أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ ** فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي؟»
إنها ليست لغة عاجزة؛ بل أمة قصّرت في حقها.
ومع ذلك؛ فإن التكنولوجيا تفتح آفاقا جديدة لخدمتها: منصات تعليمية، وتطبيقات ذكية، ومحتوى رقمي يعيد للعربية حضورها. فهي ليست لغة الماضي فحسب؛ بل لغة المستقبل إذا أحسنّا رعايتها.
تعليم العربية للأبناء ليس تعليم ألفاظ؛ بل غرس هوية. وقد نبّه الإمام الشافعي إلى خطورة هجر لسان العرب، محذرا من أن الجهل والاختلاف إنما دخلا من هذا الباب. فالأسرة، قبل المدرسة، مطالبة بأن تصنع علاقة حب بين الطفل ولغته.
العربية لغة أدب وصورةٍ وخيال. بها أبدع المتنبي، والبحتري، وأبو العلاء المعري، فخلّدوا تجارب إنسانية تجاوزت الزمان والمكان. وبها كتب الفلاسفة والعلماء، فصارت لغة فكر عالمي.
وقد عبّر إيليا أبو ماضي عن خوفه من ضياع اللغة، وربط العز والنماء بحفظها، فيما أكد معروف الرصافي أن العربية سر من أسرار الضوء في ظلمات الأمم.
إن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتخاطب؛ بل هي دين يُفهم، وتراث يُصان، وهوية تُحفظ. هي الجسر الذي يصل ماضينا بحاضرنا، والمفتاح الذي يفتح لنا أبواب كتاب الله وسنة نبيه ﷺ. وحين نُحسن إليها؛ نُحسن إلى أنفسنا، وحين ننهض بها؛ ننهض بأمتنا.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يعلي شأن هذه اللغة، ودمتم سالمين!


