خطأ مقولة: "أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي"

في مجتمعاتنا تتداول الألسن مقولة تبدو رحيمة في ظاهرها؛ لكنها مدمِّرة في جوهرها: «أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي!». تقال؛ للتخفيف، وتُردَّد؛ للتبرير؛ حتى تحولت من استثناء إنساني إلى ثقافة سلوكية، ومن عذر عابر إلى منهج حياة. وهنا تبدأ منذ المشكلة؛ فالوقت ليس تفصيلا هامشيا في حياتنا، ولا إطارا محايدا للأحداث؛ بل هو الوعاء الذي تُسكب فيه الأعمال؛ فإن ضاع الوعاء؛ ضاع ما فيه، وإن فسد؛ فسد كله.

لا خلاف أن الإنسان قد يتأخر لظرف طارئ، أو عائق خارج عن الإرادة؛ فذلك مفهوم ومقبول؛ لكن الخطأ الكبير أن نرفع التأخير إلى مرتبة “الحكمة”، وأن نُقنع أنفسنا أن الحضور المتأخر يساوي الحضور المنضبط، وأن الإنجاز بعد فوات وقته لا يقل قيمة عن الإنجاز في وقته.

بهذا المنطق؛ يصبح الموعد اقتراحا؛ لا التزاما، وتتحول الدقة إلى ترف، ويُدرَّب العقل – دون أن نشعر – على التسويف وتأجيل المسؤوليات. ومع الوقت؛ لا يعود التأخير سلوكا عارضا؛ بل طبعا راسخا.

فالمقولة ليست صحيحة؛ لأنها ببساطة تغفل حقيقة بسيطة: أن القيمة ليست في مجرد الحضور؛ بل في التوقيت؛ فالعمل المتأخر يفقد جزءا من أثره، والفرصة حين تُفوَّت لا تعود كاملة، والثقة التي تتآكل بالتأخير لا تُسترد بسهولة. من يتأخر عن مواعيده؛ يتأخر – دون أن يشعر – عن احترام الآخرين، وعن احترام ذاته أيضا.

ثم إن التأخير المتكرر لا يضر صاحبه وحده؛ بل يربك الآخرين، ويعطل الأعمال، ويهدر الجهود، ويشيع الفوضى في العلاقات والمؤسسات؛ ولهذا لا تنهض المجتمعات التي تتسامح مع التأخير؛ بل تتعايش مع التعثر.

في المقابل؛ تبدو مقولة «أن تأتي مبكرا خير من أن تأتي متأخرا» أكثر صرامة في ظاهرها؛ لكنها في حقيقتها أكثر إنسانية وواقعية. فالتبكير ليس تشددا؛ بل احترام للوقت وللناس وللنفس.

المبكر لا يعيش تحت ضغط الاستعجال، ولا يعمل بعقل مشتت؛ بل يدخل مهامه مستعدا، هادئا، حاضر الذهن؛لذلك يكون أداؤه أجود، وقراره أصدق، وحضوره أعمق أثرا.

ثم إن التبكير يصنع فرقا خفيا لكنه حاسما؛ يصنع الثقة. والثقة هي العملة الأغلى في العلاقات والعمل والحياة.

المشكلة ليست في دقيقة تتأخر؛بل في العقلية التي تبرر التأخير؛ حين نغيّر هذه العقلية؛ نغيّر سلوكنا، وحين يتغير السلوك؛ يتغير الواقع.

الأمم التي تقدمت لم تفعل ذلك بكثرة الشعارات؛ بل بثقافة تحترم الزمن، وتقدّس الموعد، وتكافئ المبادرة. والأفراد الذين نجحوا لم يكونوا أذكى من غيرهم بالضرورة؛ لكنهم كانوا أكثر انضباطا.

فليس صحيحا أن تأتي متأخرا خيرٌ من أن لا تأتي؛ بل الصحيح – والأصدق – أن تأتي مبكرا خير من أن تأتي متأخرا؛ فالمبكر يختار القيادة، والمتأخر يكتفي باللحاق. والمبكر يصنع الفرص، والمتأخر يبرر ضياعها. وبين الاثنين يُقاس الفرق بين من يحترم وقته، ومن يسمح للوقت أن يتجاوزه. والوقت – في النهاية – لا ينتظر أحدا.

أسأل الله أن يبارك لنا في أوقاتنا، ودمتم سالمين!