تعظيم سلام لمجلسنا الإنتقالي
بإرادة شعبية بدأناها من المسافة الصفر، وسياسة حكيمة أديرت بحنكة بعيدا عن الصراخ والعويل.
وفي لحظة تكاثرت فيها الأصوات المزايدة، وعلا فيها صخب البكاء أكثر من منطق الدولة الجنوبية الحاضرة، يصبح من الضروري إعادة التذكير بحقائق لا تحتمل التأويل ولا تقبل القفز عليها.
تفاهماتنا مع المملكة العربية السعودية ليست طارئة، ولا وليدة ظرف، ولا صفقة تحت الطاولة، بل شراكة سياسية وأمنية راسخة، دُفعت أثمانها دمًا وصبرًا وتنسيقًا طويل النفس. ومن العبث – بل من قصر النظر – محاولة المزايدة عليها أو تصويرها وكأنها نقطة ضعف.
المملكة العربية السعودية، إلى جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، لم تكن يومًا مراقبًا محايدًا في معركة الجنوب، بل كانت ولا تزال السند والعون الحقيقي في تثبيت الناس على أرضهم، وحماية الجغرافيا من الانزلاق نحو الفوضى الشاملة.
هذه حقيقة يعرفها من كان في الميدان، لا من يكتفي بالتحليل من خلف الشاشات.
حين تحركت القوات الجنوبية باتجاه المهرة وحضرموت، لم يكن ذلك مغامرة ولا استعراض قوة، ولم يحدث خارج سياق التحالف العربي. المسافات الطويلة التي قُطعت، والترتيبات التي أُنجزت، ما كانت لتتم لو لم تكن هناك موافقة وتفاهمات واضحة. والدليل البسيط: لم نسمع حينها هذا العويل ولا شاهدنا هذا البكاء الجماعي الذي أُطلق لاحقًا، وكأن الأرض كانت سائبة ثم صُدمت بوجود الدولة.
ما جرى بعد ذلك، وما يجري اليوم، لا يمكن فصله عن مسار طبيعي تسعى فيه الأطراف إلى تطبيع الأوضاع، وتنظيم النفوذ، وضبط الإيقاع بما يضمن مصالح التحالف أولًا، ومصالح العرب ثانيًا، ومصالح العالم الذي لم يعد يحتمل مناطق رخوة مفتوحة على كل الاحتمالات. من يظن أن السياسة تُدار بالعاطفة، أو أن التحالفات تُبنى على الشعارات، فهو لم يتعلم شيئًا من دروس العقد الأخير.
الانسحاب التكتيكي، أو إعادة التموضع، أو ضبط الانتشار، ليست هزيمة كما يحلو للبعض تصويرها، بل أدوات سياسية وعسكرية معروفة في كل تجارب الدول. الفارق الوحيد أن لدينا من يصرّ على قراءة كل خطوة خارج سياقها، إما جهلًا أو نكاية، أو بحثًا عن بطولة وهمية على حساب المصلحة العامة.
الأخطر في المشهد ليس القرار ذاته، بل الخطاب الانفعالي الذي رافقه؛ خطاب يحاول إقناع الناس بأن التحالف تخلى، وأن الجنوب تُرك وحيدًا، وأن كل ما بُني خلال سنوات يمكن هدمه بمنشور أو هاشتاق. هذا النوع من الخطاب لا يخدم الجنوب، ولا يخدم قضيته، بل يفتح ثغرات مجانية في جدار الثقة مع الحلفاء.
السياسة، ببساطة، لا تُدار بالذاكرة الغاضبة، بل بالعقل البارد. ومن يريد مصلحة الجنوب فعلًا، عليه أن يدرك أن العلاقة مع التحالف العربي ليست عبئًا نتخلص منه عند أول خلاف، بل ركيزة تُدار بحكمة، وتُرمم عند التصدع، لا أن تُكسّر عمدًا.
لذلك، وربما لأول مرة بوضوح كامل، نقول: انسوا ما حصل. لا بمعنى إنكار الوقائع، بل بمعنى التوقف عن اجترارها بطريقة انتحارية. لنبدأ من الصفر، بعقل سياسي ناضج، يدرك حجمنا الحقيقي، ويعرف أين يقف، ومع من يتحالف، وكيف يدير خلافاته دون أن يحرق الجسور.
من الصفر… لأن الأوطان لا تُبنى بالصراخ، بل بالتفاهم.
ومن الصفر… لأن الجنوب يستحق خطاب دولة، لا نشرة عويل.


