مقاييس الجمال البشري ..!!
لا أعرف لماذا ذلك الاختلال الكبير في تحديد مقاييس الجمال في الفكر الثقافي الإنساني ، ولا أعرف لماذا تميل كفة الميزان في هذا الجانب لمصلحة جمال الشكل والصورة على حساب جمال الروح والنفس في كثير من الثقافات الإنسانية ، ولماذا ينحاز الكثير من الشعراء والأدباء لجمال الشكل والصورة وإهمال جمال الروح والنفس ، فتراهم وهم يتغزلون بشكل مبالغ فيه في كثير من الأحيان ، على سبيل المثال في جمال العيون أو الخدود أو الرموش أو القوام وفي كل تفاصيل الجسد ، بينما يمرون على جمال الروح والنفس والأخلاق مرور الكرام ، وهو ما جعل الكثير من الناس يهتمون فقط بهذا الجانب في حديثهم عن مقاييس الجمال ، دون اعتبار لمقياس جمال الروح والنفس والأخلاق ، رغم أن الصورة الجمالية للإنسان تعتمد على جمال الروح وجمال الشكل معاً ، ولكن هناك من الناس من يمتلك جمال الصورة والشكل فقط ولا يمتلك جمال الروح ، وهذا النوع من الجمال قد ينفع صاحبه ولكنه قد لا ينفع المجتمع المحيط به ، بل قد يتحول إلى وبال على الشخص نفسه وعلى المحيطين به ، فقد يدفعه للغرور والتعالي على الآخرين ، وهو بذلك قد يصنع للشخص نفسه الكثير من المشاكل مع الآخرين ، بينما جمال الروح والنفس والأخلاق بدون شك ينفع صاحبه وينفع المجتمع المحيط به ..!!
ويظل مقياس جمال الشكل والصورة مقياس نسبي وغير ثابت ، فالصورة الجمالية للشكل تختلف من شخص لآخر ، فما هو جميل في تقاسيم وملامح ولون الوجه مثلاً في نظر بعض الأشخاص قد لا يكون بذلك الجمال في نظر البعض الآخر ، فالبعض يحبون مثلاً اللون الأبيض بينما البعض الآخر يفضلون اللون الأسمر ، والبعض يحبون القوام الطويل بينما البعض الآخر يفضلون القوام القصير ، والبعض يحبون القوام الممتلئ والسمين بينما البعض الآخر يفضلون القوام الرشيق والضعيف ... وهكذا ، فمقاييس جمال الشكل والصورة نسبية وليست ثابتة ، كونها تتوقف على مزاج وهوى الأشخاص والتي هي بدون شك تختلف من شخص إلى آخر ، بينما مقاييس جمال الروح ثابتة فالقيم الأخلاقية ثابتة وليست نسبية ، فقيمة الصدق لا تتغير ولا تتبدل من مكان لآخر أو من شخص لآخر ، فالصادق يظل صادق عند الجميع ، والكاذب يظل كاذب عند الجميع ، والمتواصع يظل متواضع عند الجميع والمتكبر بظل متكبر ... وهكذا ..!!
وبدون شك بأن جمال الشكل والصورة أمر خارج عن إرادة الإنسان ، فهي صفة إلزامية توجد معه منذ الولادة وتلاصقة طوال حياته ولا خيار ولا رأي ولا إرادة له فيها ، والبشر بشكل عام خلقهم الله تعالى في أجمل تقويم مقارنة ببقية المخلوقات ، وفي أحسن وأجمل صورة مقارنة ببقية المخلوقات ، قال تعالى (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) .. والفرق في الجمال سواء في القوام أو الصورة نسبي ومتقارب ، ولا يتحمل الإنسان أي مسئولية عن هذا النوع من الجمال ، فذلك هو خلق الله تعالى ، ومن المفترض شرعا وعقلا ومنطقا أن لا يتحمل الإنسان تبعات ذلك ، وأن لا يكون لونه أو شكله أو منظره سبب لإنتقاصه أو السخرية منه أو أزدرائه أو التقليل من شأنه ، كون كل تلك الأمور خارجة عن إرادته ، ومن يمارس السلوكيات العنصرية السلبية ضد الآخربن بسبب ألوانهم أو أشكالهم أو صورهم أو أسرهم أو أنسابهم ، بالازدراء أو السخرية فهو بذلك يزدري ويسخر من الله تعالى والعياذ بالله ، لأن الله تعالى هو من خلقهم على هذه الهيئة والشكل والصورة ..!!
ويتحمل الإنسان فقط تبعات جمال روحه ونفسه وسلوكه وأخلاقه ، فهو المسئول عنها والمتحكم بها ، فهي نتاج تفكيره وأعماله وأفعاله وتصرفاته ، وهو المسئول الأول والأخير عن ذلك ، كونه صاحب القرار في هذا الجانب ، فقد منحه الله تعالى المتسع من حرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار ، فعندما مثلا يكذب الشخص أو يسرق أو يتكبر ... الخ فتلك السلوكيات هي نتاج قرار الشخص نفسه ، ومن يقوم بتلك الأفعال ويمارسها على أرض الواقع هو الشخص نفسه ، لذلك هو من يجب أن يتحمل نتائجها وكل ما يترتب عنها ، وبذلك فإن الإنسان غير مسئول عن مقياس جمال شكله وصورته ، كونها أمور خارج عن إرادته واختياره ، بينما هو مسئول مسئولية كاملة عن جمال روحه ونفسه وأخلاقه وسلوكياته ، فهو صاحب الرأي والإرادة والقرار في ذلك ، وهو من يستطيع أن يرسم لنفسه صورة جمالية مشرقة أو صورة سلبية قاتمة ، وبذلك فالجمال الحقيقي هو جمال الروح والنفس ، أما جمال الشكل والصورة فالبشر بشكل عام خلقهم الله تعالى في أحسن صورة وأحسن تقويم ، والفرق بينهم في هذا المجال هو فرق نسبي ، فالإنسان هو إنسان بغض النظر عن الاختلاف في الشكل أو الصورة أو اللون أو الحجم ، وما يحدد قيمة الإنسان الحقيقية هو جمال روحه ونفسه وسلوكه وأخلاقه وتعامله الإيجابي مع الآخرين ، وفعله للخير وفدرته على احترام الآخرين واحترام حقوقهم وحرياتهم ، والقبول بهم والتعايش الإيجابي معهم ، وقيمة الإنسان وجمال الإنسان في نوع الأفعال والأعمال العظيمة التي يقدمها في خدمة الإنسانية ..!!