دموع على أرصفة الفقر.. قصة أب وأطفاله في شوارع عدن
في قلب مدينة عدن، وتحديدًا في وسط الشيخ عثمان، حيث تزاحمت السيارات وتلاطمت الأقدام في صخب الحياة، لفت انتباهي مشهد لا يمكن أن يمر به المرء دون أن يترك في نفسه ندبة من الألم، على قارعة الطريق، جلس رجل كهل، تتجسد في ملامحه تجاعيد الزمن القاسي، تحيط به ستة أطفال تتراوح أعمارهم بين السنوات العشر وأقل. كل واحد منهم يحمل بيده ثلاث علب من المناديل الورقية، يبيعها للمارة بثمن زهيد لا يكاد يسد رمق جوعهم.
دفعني الفضول إلى الاقتراب منه، سألته بحذر: "لماذا لا تبقى في البيت؟ لماذا تخرج أنت وأطفالك جميعًا إلى الشارع؟" رفع رأسه ونظر إليّ نظرة تحمل في طياتها كل معاني القهر والانكسار، ثم قال بصوت متحشرج: "يا ولدي، من سيعطيني إن جلست في البيت؟ أنا المسؤول عن هذه الأفواه الصغيرة، وإن لم نخرج لنعمل، فمن سيطعمنا؟ الحياة أصبحت نارًا تحرق الفقراء، وكل شيء في ارتفاع جنوني.. الملابس للأطفال أصبحت حلما بعيد المنال، أقل بدلة بأربعين ألف ريال، وصندل صغير لطفل لا يتجاوز عمره الثلاث سنوات بتسعة عشر ألفًا! أي حياة هذه؟ وأي زمن وصلنا إليه؟"
كلماته ضربتني في الصميم، شعرت بمرارة الواقع الذي يعيشه هذا الرجل وأمثاله، توقفت قليلًا وأنا أستمع إليه يروي مأساته، وكيف تحولت الحياة إلى معركة يومية من أجل البقاء؛ كان يتحدث بصوت يملؤه الحزن، لكنه لم يكن يروي حكايته فقط، بل كان يتحدث باسم مئات الآلاف من الأسر التي تكافح في صمت، تعاني في الخفاء، وتذرف دموعها بعيدًا عن أعين العالم.
حاولت أن أتماسك، لكن عيناي خانتاني، فبدأت أذرف الدموع دون أن أشعر، نظر إليّ الرجل وابتسم ابتسامة ممزوجة بالألم وقال: "يا ولدي، لا تبكِ.. هذا هو حال الأسر في اليمن، لم يعد هناك بيت يخلو من المعاناة، الفقر أصبح قدرًا محتومًا على البسطاء، والجوع صار رفيقًا دائمًا لهم، فيما المسؤولون يعيشون في أبراجهم العاجية، لا يهمهم ما يعانيه المواطن المسكين.
كلماته كانت كالخناجر التي مزقت قلبي، تذكرت كيف كانت الحياة في الماضي، حين كان همّ الآباء هو أي جامعة سيدخل إليها أبناؤهم، وأي مستقبل مشرق ينتظرهم، أما اليوم، فقد تبدلت الأولويات، وصار الهم الأكبر هو كيف يمكن للمرء أن يؤمن قوت يومه، كيف يمكن أن يضمن لأطفاله وجبة تسد جوعهم، أو قطعة ثياب تقيهم برد الشتاء القارس.
لقد أصبح الفقراء في وطني مجرد أرقام في معادلة لا يعبأ بها أحد، أرقام تتزايد يومًا بعد يوم، فيما تتقلص فرص الحياة الكريمة أمامهم، ويزداد الجشع والتكالب على لقمة العيش ،التجار يستغلون الحاجة، والأسعار ترتفع بلا رقيب، والمواطن المسكين هو الضحية دائمًا.
إنه لمشهد يقطّع نياط القلوب، أن ترى أبًا عاجزا عن تأمين أبسط احتياجات أطفاله، أن ترى أطفالًا صغارًا يتركون طفولتهم على ناصية الطريق ليحملوا بدلًا منها مسؤولية لم يكن من المفترض أن تُلقى على عاتقهم.
إلى متى سيظل الفقر هو العنوان العريض لحياة اليمنيين؟ إلى متى سيبقى المواطن البسيط وحده من يدفع ثمن الأوضاع المتردية، فيما يستمر المتنفذون في ملء جيوبهم غير مبالين؟ إن ما رأيته في ذلك اليوم كان شهادة حية على واقع مرير يعيشه الملايين.. واقع يجعل الدموع تنساب بلا استئذان، ويدفع القلوب إلى البكاء قبل العيون، وإذا كان هناك من لا يزال يشك في حجم المأساة، فما عليه إلا أن ينزل إلى الشارع، أن ينظر في أعين الأطفال الذين يبيعون المناديل، أن يصغي لحكايات الآباء الذين طحنهم الزمن، عندها فقط سيدرك أن البكاء لم يعد خيارا، بل هو الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها.