قصة علبة السمك
كتب أبو زين ناصر الوليدي
يحدثني صديقي محمد الشهري قائلا :
لم أكن أدرك بحكم صغر سني الذي لم يتجاوز (١٤ سنة ) أنني أقف على خط يفصل بين نظامين مختلفين أشد الاختلاف وينتمي كل منهما إلى معسكر من معسكري الحرب الباردة العالمية.
كان ذلك عام ١٩٧٩م في قرية (عوين) الحدودية بين شمال اليمن وجنوبه، وهذه القرية جنوبية تتبع مدينة مكيراس، لم أكن أفهم الصراع الشطري العالمي آنذاك بل كنت أفضل أن أرعى أغنامي في هذا المكان لكي أستمتع بمنظر المهربين وهم يجرون خلف حميرهم القوية المحملة ببعض البضائع الخفيفة التي يهربونها من الشمال إلى الجنوب، وكنت كثيرا ما أقف عند بركة الماء والمصلى الذي بجانبها لأنه المكان الذي يقف عنده المهربون ليستريحوا ويصلوا بعض الصلوات هناك،. وبفضول الطفل كثيرا ما أسألهم عن البضائع التي يحملونها، وربما منحني بعضهم شيئا من الحلويات والشوكلاتات التي يحملها في خرج حماره.
كنت في ذلك اليوم متكئا على البركة وأغنامي ليست ببعيدة عني إذ أقبل أحدهم يلهث خلف حماره المثقل بالحمولة حتى وصل عند البركة فسلم علي وربط حماره وتناول ماء من البركة فتوضأ ثم اتجه إلى القبلة يصلي، وفي هذه اللحظة مشيت نحو الحمار وأدخلت يدي في الخرج فأخرجت علبة سمك وأنسحبت من المكان خلف صخرة قريبة فحككت أسفل العلبة بتلك الصخرة حتى فتحت، فألتهمت كل ما بداخلها، ثم رجعت والرجل ما زال جالسا يقرأ الأذكار فغسلت يدي من بقايا زيت السمك وأتجهت إلى الرجل وقد وقف عند حماره فسألته : مالذي معك في الخرج يا عم؟
وقبل أن يجيبني بشتائمه ما كان منه إلا أن رفع عصاه الغليظة فأهوى بها على رأسي حتى شعرت أن الشرر يتطاير من عيني، ففرت هاربا خوفا من أن يهوي على رأسي بالضربة الثانية، وأخذت أجمع أغنامي وأنظر إليه من بعيد وهو يهبط من الجبل جنوبا حتى ابتلعه الطريق.
مرت السنون تترا وتغيرت الأوضاع حتى إذا كان عام ١٩٩٥م جمعتني بهذا الرجل ضيافة في بيت أحد الوجهاء فأخذنا نتذاكر الماضي حتى وصلنا إلى قصة علبة السمك، فقال الرجل : وهل تظن أني لم ألمحك وأنت تسرق علبة السمك؟
لقد رأيتك وغضضت الطرف عنك لطفولتك ولكن عندما رجعت وتسال بكل بجاحة(إيش معك يا والد في الخرج) لم أحتمل وقاحتك تلك .
فقلت : والله يا والد لو كنت أعطيتني ست علب ما شبعت، من شدة الجوع الذي أشعر به ووالله يا والد ما نسيت تلك الضربة وقد مرت عليها ست عشرة سنة.
وهنا أنفجر الحاضرون بالضحك وقمنا وتعانقنا وتسامحنا
وقل يا زمان ارجع.
.