الإيمان عقد ميثاق بين العبد وربِّه (2)

بقلم: عبدالله محمد الجفري 

ذكرنا في المنشورٍ السابق أن الإيمان عقد ميثاق بين العبد وربِّه , وقلنا ساعة تعلن إيمانك تكون قد دخلت في ميثاقٍ مع الله تعالى . وكل خروج بالعصيان عن بند من بنود الميثاق يعني أنك تبدأ في نقض هذا الميثاق , فإذا كثر خروجك وعصيانك سلمك العصيان للفسوق , فإن كثر فسوقك أدخلك الفسوق إلى الكفر . قال العلامة عبدالرحمن المعلمي في كتابه الاستبصار في نقد الأخبار صفحة 16 - 18 : ... الاحتمال الثاني : أن يقال : الفسوق من الأشياء التي تتفاوت , كالعلم مثلاً , فكما لا يوصف من علمَ مسألةً أو مسألتين بأنَّه عالم على الاطلاق , فكذلك لا يوصف من فسق بصغيرة , أو صغيرتين بأنه فاسق على الاطلاق . وهذا صحيح في رأينا فالعبرة بكثرة المعاصي واحاطتها بالمسلم . روى ابن القيم في كتبه إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان صفحة 15 عن حذيفة بن اليمان أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً , فأيُّ قلبٍ أشربها , نكتت فيه نكتة سوداء , وأيُّ قلبٍ أنكرها , نكتت فيه نكتة بيضاء , حنى تعود القلوب إلى قلبين : قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً , لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً , إلا ما أشرب من هواه , وقلب أبيض مثل الصفا , لا تضرَّه فتنة ما دامت السماوات والأرض ." وأخرج الإمام أحمد بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه , فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه , وإن زاد زادت , حتى يعلو قلبه ذلك الرين الذي ذكره الله تعالى في القرآن :{{ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }}[ المطففين : 14] مسند ابن حنبل رقم ( 7941) وصححه أحمد شاكر . وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2 / 417 ولا ريب أن الكفر والفسوق والعصيان درجات وأعلى درجة في المعاصي تسلمك للتي بعدها حتى تخرجك إلى الكفر والعياذ بالله , وحذار أن تحاط بهم المعاصي . قال تعالى :{{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }}[ البقرة : 81 ] قال الفخر الرازي في تفسيره 3 / 156 : أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي ... ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار , لا جرم بيَّن تعالى أن الذي يستحق به الخلود في النار أن يكون سيئة محيطة به " 

وكون الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه شيء وحتى ينقض العهد والميثاق مع الله نجد دليله من القرآن الكريم يقول تعالى :{{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92}}[ النحل ] وهذه الآية تحذر المؤمنين من نقض عهدهم مع الله تعالى فيرجعون مثل المرأة التي تغزل فتنقض غزلها وتفككه كـأن لم يكن . 

ومن عقيدتنا نحن أهل السنة والجماعة إنَّ الإيمان يزيد وينقص , وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي , ينقص حتى لا يبق منه شيء ذو نفعٍ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه , فقد أوجب الله له النار , وحرّم عليه الجنة " فقال له رجلٌ : وإن كان شيء يسير يا رسول الله ؟ قال :" وإن كان قضيباً من أراك " وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم - :" إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كأنه ظلة , فإذا خرج من ذلك العمل , عاد إليه الإيمان "

ولا يخدعنك الظن أنك مسلم , لقد كانت قريش تعتقد انها على دين إبراهيم الحقِّ وقاتلوا دفاعاً عن دينهم وكانت اليهود والنصارى يعتقدون أنهم على الدين الحق وهم مكتوبون عند الله من الكافرين . قال تعالى :{{ لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة }} وقال :{{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم }} وقال لقريش والمشركين :{{ إنَّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون }}.وكثير منا يعتقد أنه على الدين الحقّ , وهو أبعد الناس عنه لأنه يجهل ما هو الدين الحق فلا يدري حقيقته . فيأخذ دينه مما يقوله له الناس سواء كانوا علماء أو جهلة وليس من كتاب الله تعالى . تماماً كما أخذ اليهود والنصارى دينهم من أحبارهم وكهنتهم ولو أخذوه من كتاب ربِّهم الذي أنزل على أنبيائهم لما كفروا ولما ضلوا . فلم يقل أحدٌ من الأنبياء إنه اللهٌ أو ابن الله وجاء في الإنجيل عن عيسى عليه السلام أنه عبد الله ورسوله . لقد اعتقد الناس أن ما حفظوه من علمائهم هو الدين الحقِّ فصدقوه وقاتلوا عليه . ونحن اليوم فينا كثيرون مثلهم . لا نأخذ ديننا بأنفسنا ومن كتاب ربِّنا بل مما قاله السلف والآباء أنه دين . تجد اليوم كثيرون يردون كلام الله تعالى وينكرونه أو يحرفونه بالتأويل لكي يتوافق مع ما يعتقدون . فبدل أن يغيروا ما شبوا عليه وحفظوه , ويصححوه على كتاب الله تعالى , تجدهم يحرفون كتاب الله ليوافق أهوائهم وما ورثوه من أسلافهم . وهذا الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما . وهذه مهلكة عظيمة وكفر والعياذ بالله .

إذن الإيمان كما يزيد بالطاعات ينقص بالمعاصي حتى لا يبقى منه شيء . وبذلك تكون قد نقضت الميثاق بينك وبين الله تعالى . وفي هذه الحالة . يجب على رجال الله وعلمائه الربانيين وأهل السنة النبوية الحقة . دعوة الناس - لا قتلهم - دعوة الناس والصبر على أذاهم كما صبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام , تدعوهم وتصبروا عليهم حتى تنقذوهم من النار , وليس قتلهم فتعجلون بهم إلى النار . لأن من يفعل ذلك لا يخدم الله ويتعبده بل يخدم الشيطان ويحقق هدفه . فالله يريد إنقاذ الناس من النار , والشيطان يريدهم فيها معه , فلا تعبدوا الشيطان بقتل من تتهمونه بالكفر وقد لا يدري المسكين أنه كافر كما كان أهل الكتاب ومشركو قريش لا يدرون انهم قد مرقوا من الإيمان كما يمرق السهم من الرمية وصاروا كافرين . يروي ابن حجر - فتح الباري صفحة 1804 - عن يونس بن بكير في المغازي عن ابن اسحاق قال :" فقيل لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – هذا وحشي - قاتل حمزة رضي الله عنه - فقال :" دعوه . فلإسلام رجل واحد , أحبُّ إليَّ من قتل ألف كافر " والرسول صلى الله وقال للإمام علي بن أبي طالب :" لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم "