حين يحج القلب ويعجز البدن

في كل عام، حين تفيض شاشات العالم بصور الطائفين حول الكعبة، وتعلو تكبيرات الحجيج في كل بيت، يقف كثيرون منا عند حافة الحلم. نغلق أعيننا، ونستحضر لحظة الوصول، فنُقبل الحجر بقلوبنا، ونُجري دموعنا على أكتاف الشوق، وإن كنا على أسرّة المرض، أو خلف الحدود، أو تحت سقف العجز.

نشتاق، ونتألم، ونهمس لأنفسنا: هل تُقبل الأشواق إذا لم تصحبها الأقدام؟

الجواب في القرآن، وفي القلب

قال الله تعالى: ﴿وأينما تولوا فثم وجه الله﴾ [البقرة: 115]. ما أروعها من طمأنينة! فالله لا يُقاس قربه بالمسافة، ولا يُشترط في الرحلة إليه جواز سفر ولا تأشيرة ولا مال. إنما هو قلب يُصدق، ونية تخلص، ودمعة تسيل على خدِّ من حُرم ولم يُحرم.

الحج ليس حكرا على من وقف بعرفة

إنّ من يظن أن الفضل حكرٌ على من حجَّ، لم يقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

ولم يَذق معنى أن تُعين محتاجا، أو تواسي مكروبا، أو تستر أخا، فتُكتب لك عند الله حجّة خالصة.

قالها ابن القيم بصدق الزاهدين:

"من الناس من حجَّ بجسده فقط، ومنهم من حجَّ بقلبه فقط، ومنهم من جمع بينهما، وهو الكامل" [مدارج السالكين، ج1]

فلا تحزن إن لم تطأ قدمك المشاعر، المهم أن تطأ روحك باب السماء.

ويا أهل غزة! يا من حُصرتم عن البيت، وأنتم تسكنونه في قلوبكم

أنتم الحجاج بحق، حجيج الجراح والرباط. كل يوم تقفون في مِنى الفداء، وتُرمون بشتى السهام، وتصبرون. كل دعاء في عرفات يُفتَّح بكم، وكل نفرة من مزدلفة تذكّرنا أن غزة لم تنفر بعد من ألمها؛ لكنها تقف.

وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر» (رواه البخاري).

فأنتم معنا، وأنتم فوقنا، أنتم من فاز بالحج حين عجزت قوافلنا.

فيا من حُرمتم من الحج، لا تحزنوا! فإنّ لله أبوابا لا تُغلق، وطرقه إلى الجنة لا تُحصى.

حجوا بقلوبكم، وطوفوا بنيّاتكم، واسعَوا بدموعكم، واذبحوا في أنفسكم الكِبر، وارجموا وساوسكم، وبيِّتوا طهارة السريرة كما يُبيت الحاج بمنى.

واذكروا: الحج ليس محطة زمنية؛ إنه حال دائم، وسفر مستمر، إلى الله.

ودمتم سالمين!