صناعة معنى الحياة
بقلم: حسن الكنزلي
ليس السؤال عن معنى الحياة ترفا فكريا، ولا بدعة فلسفية وافدة؛ بل هو سؤال فطري، مغروس في أعماق النفس الإنسانية. كل إنسان، مهما غرق في الضجيج، ومهما ألهته الشهوات؛ لا بد أن يمرّ بلحظة صمت صادقة؛ يسأل فيها نفسه: لماذا أعيش؟ إلى أين أمضي؟ وماذا يبقى مني إذا سقط هذا الزيف كله؟
وهناك فرقٌ شاسع بين العيش والحياة؛ العيش أن نأكل ونشرب وننام ونعمل؛ أما الحياة فهي أن نعرف لماذا نأكل، ولماذا نعمل، ولماذا نصبر، ولماذا نحيا أصلا؛ فكم من أحياء يمشون على الأرض وهم أموات المعنى! وكم من مبتلين أنهكتهم الشدائد وهم أحياء القلوب!
نعيش اليوم وفرة في المتع؛ لكنها فقيرة في المعاني؛ شاشات لا تنطفئ، وأسواق لا تشبع، وأصوات لا تهدأ، ومع ذلك قلوب خاوية، وأرواح متعبة، وقلق لا يعرف السكون. يصوّر القرآن هذا التيه بعمق: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.
فأزمة الإنسان المعاصر ليست نفسية فحسب؛ بل أزمة معنى، وخطر إيماني وسلوكي واجتماعي، يفسد النيات، ويضعف الصبر، ويحوّل الدين إلى طقوس خاوية، ويصنع إنسانا يستهلك كل شيء، حتى نفسه.
والقرآن لا يترك الإنسان تائها بلا جواب؛ بل يضع له المعنى في أول الطريق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. ليست عبودية شكلية، ولا طقوسا فارغة! بل عبودية واعية تُنتج عمارة واستخلافا؛ لا انسحابا من الحياة.
والمعنى في القرآن مرتبط بالآخرة لا باللحظة العابرة: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾؛ فما كان لله بقي، وما كان لغيره إلى زوال.
ومن أعظم ما يصنع المعنى النية؛ تلك القوة الخفية التي تحوّل العادة إلى عبادة، والعمل الدنيوي إلى زاد أخروي. وقد قال محمد: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». أما الدنيا فليست موطن الراحة المطلقة؛ بل ميدان ابتلاء واختبار: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾؛ فمن طلب فيها المعنى الدائم خاب، ومن جعلها جسرا للآخرة نجا.
اللذة تلمع ثم تنطفئ، تشبع الجسد ساعة وتترك الروح عطشى؛ أما المعنى فباق، يثبت حين تسقط الزخارف، ويمنح الطمأنينة حتى وسط التعب. كم من لذة أعقبت فراغا، وكم من تعب هادف أورث سلاما داخليا عميقا.
المعاناة الهادفة أشرف من الراحة الفارغة؛ فالألم حين يكون في سبيل الله؛ يتحول إلى رفعة ونور؛ ولهذا عاش أصحاب الرسالات أسعد القلوب رغم الشدة؛ لأنهم عرفوا لماذا يتألمون، ولمن يصبرون، وإلى أين يمضون.
وأول منابع المعنى: الإيمان بالله واليقين بلقائه؛ فمن أيقن أن له ربًا يراه، وموعدا يقف فيه بين يديه؛ استقامت حياته، وعرف لماذا يفرح ولماذا يحزن ولماذا يصبر؟
ومن منابع المعنى: الرسالة الشخصية؛ أن يسأل الإنسان نفسه بصدق: لماذا خُلقت؟ ماذا أُحسن؟ وأين وضعني الله؟
ومنها أيضا: العمل الصالح ذو الأثر المتعدي؛ عمل يبقى بعدك، وينتفع به غيرك، ويشهد لك لا عليك.
ومنها: الصبر على البلاء لا بوصفه انكسارا؛ بل طريقا للترقي؛ فالألم في ميزان الإيمان رسالة تربية لا عبثا ولا عقوبة عشوائية.
ثم يأتي العلم الذي يهدي؛ لا يتعالى، والتزكية التي تصلح القلب قبل الصورة، وخدمة الناس طلبا لرضا الله؛ لا لثناء العباد.
أخطر ما نعيشه اليوم ليس الفقر؛ بل الفراغ، ولا القلة؛ بل السطحية؛ يُختزل الإنسان فيما يملك؛ لا فيما يكون، ويُغرق في الاستهلاك، ويُلهى بالتفاهة، وتُقتل القناعة بالمقارنات القاتلة، ويشيع تدين شكلي بلا روح ولا أثر. عندها تتحول الحياة إلى سباق صور؛ لا رحلة قيم.
المعنى لا يُنتظر؛ بل يُصنع؛ يُصنع بتصحيح البوصلة الإيمانية، وجعل الله غاية لا وسيلة.
ويُصنع بتحديد رسالة شخصية واضحة، وبناء أهداف مرتبطة بالقيم لا بالشهرة.
ويُصنع بالاستمرارية في العمل الصغير المؤثر، وبالمراجعة الدائمة للنية؛ لئلا يتحول العمل إلى عادة، والعبادة إلى شكل، والرسالة إلى مصلحة.
المعنى هو الذي يُثبّت الإنسان عند الزلزلة، ويمنحه طمأنينة؛ حين تفقد الأشياء قيمتها. والحياة بلا معنى استهلاك بطيء للروح، وتآكل صامت للقلب.
لسنا بحاجة إلى حياة أطول؛ بل إلى حياة أعمق؛ حياة نعرف فيها لماذا نعيش، ولمن نعيش، وإلى أين نمضي؟ تلك هي الحياة التي تليق بكرامة الإنسان، وتصلح للدنيا، وتنجّي في الآخرة.
نسأل الله أن يرزقنا حياة ذات معنى؛ لا حياةَ غفلة واستهلاك، ودمتم سالمين!


