الذباب الإلكتروني: سموم رقمية تهدد نسيجنا الاجتماعي

بقلم: د. مرسي أحمد عبدالله.


في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة تتصل أطرافها بشبكات التواصل الاجتماعي، تتجلى قوة الكلمة والصورة في تشكيل الوعي العام. ولكن، مع هذه القوة الهائلة، ظهرت أدوات هدامة لا تستهدف بناء الأوطان، بل تقويضها من الداخل. من أخطر هذه الأدوات وأكثرها فتكًا، ظاهرة تُعرف بـ "الذباب الإلكتروني": جيوش وهمية من الحسابات والصفحات التي لا تحمل اسمًا ولا وجهًا، لكنها تحمل في طياتها سموم التضليل والفتنة، وتستهدف بشكل ممنهج تدمير النسيج الاجتماعي للمجتمع الواحد.
كيف ينسج الذباب الإلكتروني شباكه؟
إن عمل الذباب الإلكتروني لا يقتصر على مجرد نشر الشائعات، بل هو عملية معقدة وممنهجة تستهدف أضعف نقاط المجتمع:
استهداف الشقوق الاجتماعية: يبدأ "الذباب" بتحليل المجتمع وتحديد نقاط ضعفه. هل هناك خلافات سياسية قديمة؟ انقسامات جغرافية، قبلية، أو مذهبية؟ تفاوت طبقي أو اقتصادي؟ بمجرد تحديد هذه الشقوق، يتم تكثيف الهجوم عليها.
تضخيم السلبيات وتشويه الحقائق: لا يتردد الذباب في اختلاق الأكاذيب وتشويه الحقائق. يأخذ حادثة فردية ويضخمها لتصبح ظاهرة عامة، يجتزئ التصريحات من سياقها لتغيير معناها، وينشر صورًا وفيديوهات مزيفة لإثارة العواطف. الهدف هو تحويل الخلافات البسيطة إلى صراعات عميقة، والشكوك المحدودة إلى قناعات راسخة.
تأجيج العواطف واللعب على الغرائز: يعتمد الذباب الإلكتروني بشكل كبير على إثارة الغضب، الكراهية، الخوف، والشعور بالمظلومية. يستخدم لغة تحريضية ومهينة، ويروج للتعميمات السلبية عن فئات أو جماعات بأكملها، في محاولة لتجريد "الآخر" من إنسانيته وجعله هدفًا للكراهية.
تكتيكات الانتشار والتحشيد: يعمل الذباب كشبكة مترابطة من الحسابات الوهمية والواقعية المأجورة، تنشر نفس الرسائل بشكل متكرر، وتطلق هاشتاغات مضللة، وتتفاعل بشكل مصطنع لتصدر التريندات. الهدف هو خلق انطباع بأن هناك رأيًا عامًا واسعًا يؤيد رسائلهم، وبالتالي التأثير على الرأي العام الحقيقي.
النتيجة النهائية لهذه العملية المدمرة هي تقويض الثقة بين أفراد المجتمع، وزرع بذور الشقاق، وتحويل الطاقات التي يجب أن توجه نحو البناء إلى صراعات داخلية تستنزف الجميع. يصبح المجتمع منقسمًا، منهكًا، ويسهل التحكم فيه وتوجيهه لخدمة أجندات خارجية أو داخلية لا تهمه سوى مصالحها الضيقة.
طرق الوقاية: حصن مجتمعاتنا
مواجهة هذا الخطر لا تتم بالصمت أو التجاهل، بل بالوعي والعمل المشترك:
التفكير النقدي وتدقيق المصادر: هذا هو خط الدفاع الأول. لا تصدق كل ما تراه أو تقرأه. اسأل دائمًا: من كتب هذا؟ ما هو مصدر هذه المعلومة؟ هل هناك أدلة تدعمها؟ هل تتناقض مع المنطق أو الحقائق المعروفة؟
الوعي بتكتيكات الذباب: بمجرد فهم كيفية عمل الذباب الإلكتروني (مثل تكرار الرسائل، استخدام العناوين المثيرة، استهداف الشخصيات)، يصبح من الأسهل التعرف عليه وعدم الوقوع في فخه.
 * مقاطعة المحتوى المضلل وعدم التفاعل معه: الامتناع عن إعادة النشر، أو الإعجاب، أو التعليق على المحتوى المخادع، يحرم الذباب الإلكتروني من الانتشار الذي يسعى إليه. التعامل معهم بالصمت المطلق على منصاتهم هو أقوى سلاح ضد انتشارهم.
حظر الحسابات المشبوهة والإبلاغ عنها: لا تتردد في حظر أي حساب تكتشف أنه "ذباب إلكتروني"، والإبلاغ عنه لإدارة المنصة. كل حظر أو إبلاغ يساهم في تقليل حجم هذه الشبكات.
 * دعم الأقلام الحرة والصادقة: في المقابل، علينا أن نبحث عن الأصوات النزيهة التي تكتب الحقيقة، وتدافع عن قيم المجتمع، وتعمل على توحيد الصفوف. ادعمها بالمتابعة والمشاركة والثناء، لتكون نورًا في وجه الظلام.
 * تعزيز قيم التسامح والحوار: يجب أن نعمل على تعزيز قيم التسامح والحوار البناء في مجتمعاتنا، وتشجيع النقاشات القائمة على الاحترام، حتى نغلق الأبواب أمام محاولات الذباب لتأجيج الكراهية والانقسام.
إن "الذباب الإلكتروني" ليس سوى أداة، وقوته تنبع من جهلنا وضعفنا. ولكن بوعينا الجماعي، وتفكيرنا النقدي، ودعمنا للأصوات الشريفة، يمكننا أن نحصن نسيجنا الاجتماعي ضد سمومه، ونحمي أوطاننا من التفكك، ونمضي نحو مستقبل مبني على الحقيقة والتفاهم، لا على التضليل والفتنة.