القَحْط بين جفاف الأرض وجفاف الضمائر

تشهد بلادنا هذه الأيام موجاتٍ متتالية من الجفاف، وانحباسا طويلا في الأمطار، تزامنا مع أزمة معيشية خانقة وتدهور في الغطاء النباتي، وتراجع في منسوب المياه الجوفية، خاصة في المناطق الزراعية التي كانت تُعدّ سلال غذاء للمجتمع.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة:

هل الجفاف الذي نعانيه اليوم هو مجرد ظاهرة مناخية؟ أم أن له امتدادًا في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم؟

المطر في المفهوم القرآني ليس مجرد دورة مائية؛ بل رحمةٌ يُنزلها الله حين ترقّ القلوب وتطهر الأيدي. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ﴾. وفي الحديث، قال ﷺ: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا».

فما تشهده بلادنا من شحٍ في الغيث؛ لا ينفصل عن واقعها الأخلاقي والديني؛ من تفشي الظلم، وهتك الأعراض، وأكل المال الحرام، وتضييع الأمانات، وقطيعة أرحام، وسفك دماء بغير حق.

رغم أن شبكات المياه الحكومية ما تزال توصل المياه إلى بعض المدن؛ إلا أن المخزون المائي اليمني في حالة حرجة:

- منسوب المياه الجوفية في انخفاض مستمر.

- الأمطار الموسمية لم تعد تغطي الحاجة.

- السدود مهملة، والغطاء النباتي يتدهور.

- معظم الآبار في الريف توقفت عن الإنتاج.

- وانقطعت المياه عن قرى بكاملها.

كل هذا يهدد بانهيار أمني غذائي ما لم يُتدارك بالمطر.

وصلاة الاستسقاء ليست فقط طقسا دينيا؛ بل هي:

- عبادة جماعية تعبّر عن الانكسار لله.

- وإعلان توبة جماعي يُقرّ فيه الناس بفقرهم إلى الله.

- وسيلة عملية لنشر الوعي والتكافل والدعاء الجماعي.

وقد كان النبي ﷺ يخرج بالناس رجالا ونساءً وأطفالا، في مشهدٍ إيمانيٍّ مهيب! يبكون؛ ولا يتجمّلون، يستغفرون؛ ولا يتفاخرون، يرجون؛ ولا يتّكلون.

إن نزول المطر لا يبدأ من السماء؛ بل من القلب، ولهذا فإن الواجب اليوم على كل فرد وأسرة ومجتمع وحكومة:

- إعلان التوبة من الذنوب العامة والباطنة، على مستوى الأفراد والمؤسسات.

- ردّ المظالم؛ فلا يُقبل دعاء من ظالم. فعلى الجميع أن يراجعوا حقوق العباد والخلق.

- إخراج الزكاة كحق شرعي على المال، وسبب مباشر في استجلاب الغيث والبركة.

- إصلاح ذات البين؛ فقطيعة الأرحام، والتنازع بين القبائل، والخصومات الشخصية... تمنع الخير.

- إحياء مجالس الذكر والاستغفار في البيوت والمساجد والمؤسسات.

- خروج الناس متذللين، متطهرين، مستغفرين، لا في زينة العيد بل في هيئة المتضرع الملهوف.

إننا في لا ننتظر ماء فقط؛ بل ننتظر رحمة، وأمنا، واستقرارا، وشفاءً.

وإن الغيث الذي نطلبه من الله، لا يحيا به الزرع فقط؛ بل تحيا به القلوب، وتلين به النفوس، وتنقشع به الغمّة.

وصلاة الاستسقاء التي شرعت لنا فرصة؛ فلنستقلها بقلوب منكوبة؛ لا مزهوة، وبأيدٍ متضرعة؛ لا متكبرة، وبأعمال صالحة؛ لا شعارات فارغة.

«اللهم اسقِ عبادَك وبهيمتَك، وانشُر رحمتك، وأحيِ بلدك الميت»

هذا الدعاء لا يُستجاب إلا إذا سُقيت القلوب أولا بالرجوع إلى الله؛ قبل أن تُسقى الأرض بالمطر.

فلنرجع إلى الله جميعا!

ودمتم سالمين!