عدن أولى خطوات الطريق إلى الحرية

هذه  قصة لهروب شخص عزيز  رواها لي ونحن في طريقنا من صلاله الى الغيضة عاصمة المهرة باليمن، انها قصة  تتشابه مع قصص  جيل كامل من أبناء ظفار عندما أصبحت صلالة منذ العام 1965 وبدء قيام الثورة في الجبال،  سجن كبير وطوقت بسور حديدي من البحر الى البحر،  ترزح تحت ثالوث الفقر  والجهل والمرض.

 لم يكن حينها امام شبابها  إلا هجرها مكرهين ، طلبا لثالثوث من نوع اخر يتمثل في الحرية والعلم والعمل،  وهذا الثالوث الاخير هو اكسجين الشباب في أي مكان وزمان  وبدونه فإن حياتهم تدخل في مرحلة موت سريري أو تحتقن لتتحول الى باروت شديد الانفجار.

سبق أن  كتبت قصة  بعنوان "الهاربون والعائدون" ضمن كتابي القصصي الثاني سوالف الستينات (البطران) وكانت عن الهاربون من شباب صلاله سباحة يكابدون امواج بحر العرب والعائدون بعد يوم 23 يوليو 1970 المجيد (يوم إنبثاق الحرية وسطوع نورها على عمان كلها ، من قصر الحصن العامر بظفار، وماجلبته من علما وعملا وصحة واقتصاد،  حتى الفقر قتلوه ولو لم يكن رجلا .

قصة خروج أو هروب محدثي مع انها شخصية بحته وكثير لا يحبون مشاركة الآخرين في خصوصياتهم، ولكن للسفر احكام، فبينما كنت وإياه مسافرون  بالسياره  إلى الغبضه ومنذ دخولنا حوف البمنيه بعد اجتياز حدود صرفيت العمانيه والى أن وصلنا الغيضه، وكان يوجد على امتداد هذه المسافة على طول  الطريق قرى صغيره للصيادين والرعاه، ورغم أنني قد قطعت هذا الطريق مرات عديدة  إلا أنني لا اتذكر اسماء هذه القرى المنتشره مابينها، لكنني فوجئت أن صاحبي كلما قربنا من قريه يقول لي سنصل الان إلى قرية كذا ويليها قرية كذا وهكذا دواليك حتى وصلنا الغيضه، فسألته، بالله عليك كيف تتذكر أسماؤها وبالتسلسل من الشرق إلى الغرب؟!، إذن ليس صحيح انك لم تزور الغيضه في السنوات الاخيره، أجابني أنه لم يمر على هذا الطريق إلا مرة واحدة وكانت في العام 1965، استغربت ذلك منه وقلت له كيف ذلك وانت لم تأتيها الا مرة واحدة وقبل عشرات السنين؟! ابتسم قائلا؛ لأنها كانت رحلة غير عاديه، فاستحلفته أن يحكيها لى فوافق بعد أن ترجيته  ولانه يعرف شغفي بهذا النوع من القصص .

 اليوم أحببت أن اشارككم  روايتها بعد ستين عاما من حدوثها، علها تفيد شبابنا في مستهل حياتهم تأولما كان يعانيه الاهل والاجداد  وصبرهم ومكافحتهم في اجتياز كل ذلك، عسى ان يتعضوا منه لما فيه من عبر .

عندما بلغ صاحبنا الثالثة عشر من العمر وبداية الشباب وجد نفسه في هذا السجن الكبير (صلاله)،  فقرر مكرها ودون تردد الخروج منها إلى الحرية والسير إلى طريق الشباب الاساسي في شبابهم، إلا وهو الحرية والعلم والعمل،  لم يكن السفر في منتصف الستينات ممنوعا تماما،  إلا أن صرف الجوازات عليه الكثير من المحاذير لين معين حتى تم المنع تماما للجميع في العام 1967.

البداية كانت كما سمع وعرف أنه لابد من الوصول إلى الكويت وهناك كان بالكويت  الكثير ممن سبقوه من عمان عامة وظفار خاصة، فقد كانت الكويت حينها بلاد العرب بحق،  ولكن كيف السبيل للخروج إلى الجاره أرض المهره باليمن للحصول على جواز سفر من حكومتها (حكومة بن عفرير) هناك، وبعد ذلك الإنطلاق منها إلى عدن، وكانت حينها عدن لازلت تعيش عزها ايام كانت (هاف لندن) قبل 1963 ليستقل منها الطائرة إلى الكويت، ولكن أنى له ذلك ولا حول ولاقوة له ولاحيلة ولا مال.

قرر مبدئيا تحصيل مبلغ من المال سريعا فاشترك مع صديق له على استئجار جزء من مزرعه وزرعوها (جوح) بطيخ في موسمه وباعوا المحصول وتحصل على مبلغ ولكنه لازال لايكفي ولأصراره اكتمل تقريبا المبلغ حسب ما حصل عليه من معلومات شفويه الذي يعينه على ذلك مع ما بلغته الأم من مصوغاتها ودعم الاهل المقربين،  ثم دبر له أحد الأقارب رفقة مع شخصان من سكان الجبل  اكبر منه سنا كانوا قد سافروا من قبل ويعرفون الطريق وليس لديهم جوازات بدورهم لظروف شخصيه خاصة بهم، فرحبوا برفقته واصطحبوه معهم،  فكلهم كان ينوي الاتجاه إلى هناك الى عدن برا ومنها إلى الكويت جوا.

كان الموعد بينهم أن يلتقوا في عوقد كعادة كل الشباب الهاربين إلى المهره حينها، سواء كان هروبهم بحرا أو برا، (من عوقد نويت
غصبا ولو مابغيت

في ليلي سريت 
من بعد تعب وكدر) ،  ومنها أوغلوا غربا  وسط الوديان  إلى المغسيل ومروا بسلام رغم وجود سيارات عسكريه (لاند روفر والبيد فورد الانجليزية) ومن بعدها  بدأ مشوار الهايكنج من عقبة حشير  وما ادراك ما عقبة حشير (لكن بدون أحذية خاصة ولا معدات ولا إسعاف أولي) وصولا إلى  رخيوت ومنها بطريقة هايكنج اكثر صعوبه إلى  ضلكوت وحوف اليمنيه، والى هنا تم قطع مسافة  200 كم من الهايكنج تورمت وتمزقت معها الاقدام وأنهكت الأجساد، وبدأ بعد ذلك  السير بمحاذات الشاطئ لمسافة. تتجاوز مائة كم المتبقية من مسافة الطريق الغيضة مشيا واستغرقهم الأمر اربعة أيام وثلاث ليالي دون توقف إلا للنوم ليلاودون زاد يذكر، ابقنت بعدما عرفت ذلك  أنها رحلة لاتجعلك تتذكر اسماء تلك القرى  الصغيره بالتسليل فقط ، بل حتى الشجر والحجر فيما بينها.

كانوا كلما جن الليل عليهم في قرية من تلك القرى يقصدون مسجدها لصلاة العشاء فيستضيفهم أهلها، رغم ضيق الحال فيوزعونهم بينهم، كل بيت تستضيف واحد منهم (هذه عادة أصيلة تشترك فيها منطقة المهره  وظفار)، ثم يعودوا للنوم بعد العشاء سواء بالمسجد أو على شاطي البحر  وبعد صلاة الفجر يواصلون السير، وقد أشار محدثي أثناء مرورنا على بعضها  إلى بعض الكهوف أو الدهاليز المهدمة التي استضافه أهلها من الرعاة والصيادين.

في الغيضه حصل على الجواز بالشراء لكن المبلغ المتبقي معه لايكفيه لمواصلة الرحله وشراء تذاكر السفر الى مطار الريان بالمكلا ثم منها إلى عدن ومنها إلى الكويت مع الإقامات هنا وهناك ، كما أن مرافقيه ليس معهم فائض يزيد عن تكاليف سفرهم، وبينما هو على هذه الحال من الهم والكدر، قابله رجل يكبره سنا ولاحظ بفراسته مايعتريه، فسلم عليه وسأله من اين هو، اجابه أنه من المهره، رد عليه الرجل قائلا؛ لاتخفي نفسك ياولدي فأنا على يقين انك من ظفار وانا كذلك من ظفار واعمل بالسفر والاتجار واسمي فلان بن فلان، هنا تيقن صاحبنا منه وأخبره عن نفسه وما ابقاه في الغيضة، فقال له الرجل لاتيأس يابني لدي مال لا احتاجه حاليا  وساسلفك ما تحتاجه في رحلتك واعرف عمك فلان بالكويت وانا ازورها باستمرار للتجاره وبعد أن تعمل هناك اقتطع مبلغ كل شهر من مرتبك وضعه لدى عمك ولا تستعجل في أمر رده ، (التقيت هذا الرجل عند صاخبي مرة في بيته وكان عازمه على العشاء وقد استغربت العلاقه بينهما، والان عرفتها) .

وصل صاحبنا إلى عدن وقد أسهب لي في وصفها حينذاك وما كانت عليه من جمال وعصرنه ووضع اقتصادي وتجارب مربح وتذكرت كل ذلك بعدما زرت عدن في العام 2024 فتمنبت أن تعود كما اسهب لي صاحبي في وصفها، وليس ذلك ببعيد عليها فمن بناها وعمرها هم حينها أبناؤها  والتاريخ سعيد نفسه بها لاشك.

طرفة أخبرني بها صاحبي وقعت له في مطار عدن، ذلك أنه رأى في المطار كشك يبيع المرطبات ومنها غرش الكاكولا الحمراء، ورأى الناس تشربها باستمتاع وكان لم يرها من قبل فظن أنها نوع من الشربيت (فيمتو)، فاشترى واحدة فرح بها وأخذ يرجها ليرى الفقاعات بداخلها وبانتظار الصعود للطائره ذهب إلى مفتاح العلب المتدلى وجرب فتحها مثلما فعل الاخرون، فتح غطاء الغرشه فاصدرت دوي صوت يشبه الانفجار وقذفن ما بداخلها كالبركان فافلتها بسرعة من يده وتحطم زجاجها على البلاط واحدث بدوره قرقعة كبيرة مضاعفه فسقط على  الأرض لم يستوعب برهة ما الذي حدث ولم يستعيد وعيه إلا على جال أمن المطار يوجهون له بنادقهم  ويكبلوا يديه بالاغلال ولم يفلته منهم إلا تدخل رفيقيه وشرحهم لهم بانه مجرد ولد صغير وبدوي لم يرى زجاجة كاكولا بحياته من قبل.

هذه كانت أولى خطواته في سبيل الحرية إلى عدن ومن تفجيره الكاكولا في مطارهاتواصلت الخطوات في الكويت لينهي دراسته الاعداديه بها ثم إلى بغداد لينهي الثانويه منها ولم يعود ولم يرى أهله إلا بنهاية العام الدراسي 1971 ومنها إلى القاهره للدراسة الجامعيه ولكنها هذه المره بالطائره من مطار صلاله، وبعدها بدأء مشوار خطوات العمل والعطاء للوطن ومثله في العديد من المحافل الدوليه والدول العربيه والاجنبيه ولكن هذه خطوات للاسف لا استطيع ذكرها ولا ذكر  اسمه الا اذا أذن لي بعد أن يقراء ما كتبت وسالح عليه من جانبي في ذلك  مجددا وساشارككم فيه بلا شك في حينه.