على طريق المهرجان.. "بدرية القمندان"... حين يختبئ الشعر خلف الغناء!
ليس كل ما يُغنّى يُفهم، ولا كل ما يُرقص عليه يُفكك. بعض القصائد – تمامًا كالأمكنة العتيقة – تُبقي نوافذها مواربة، فلا تُعطي سرّها لمن يمرّ سريعًا. وهذا تمامًا ما فعله الأمير الشاعر أحمد فضل القمندان في نشيده الساحر "البدرية"، الذي لا يزال يُغنّى في لحج وعدن والجنوب، لكن دون أن يُستنفد معناه، أو يُحاصر تأويله. وقد كان من حُسن التوقيت أن يفتتح أخي العزيز الدكتور هشام السقاف هذا المسار التأويلي بمقاله الرصين المنشور يوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في صحيفة الأيام الغرّاء، تحت عنوان (على طريق المهرجان... بدرية القمندان)، حيث استدعى فيه مشهدًا من ذاكرة منتدى "الأيام" الثقافي في حضرة الموسيقار الكبير محمد مرشد ناجي، ليضعنا أمام تحدٍّ لافت: “دعونا نناقش أغنية واحدة فقط من أغاني القمندان... دعونا نبدأ بـ(البدرية)!” ولعل مقالي هذا لا يأتي إلا كمقابل مكمّل لذلك الطرح، متممًا عليه لا نافيًا له، ومعرّجًا على معانيه، إذ فتح الدكتور هشام الباب واسعًا لتأمل هذا النص/النشيد الذي بدا لأول وهلة بسيطًا، ثم تبيّن أنه أعقد مما نظن، وأغنى مما نُحسن تفسيره. "البدرية" ليست صورة لفتاة طلعت بين الحسان، كما قد يوحي المطلع: طلعت بدرية بين الحسان بعيون سود بل هي – كما لمح الدكتور هشام – رمز لحجي محض، مركّب، زئبقي. نصّ يحفر في طبقات المكان، يدوّن "الحوطة" كجغرافيا روحية، ويحيل الديار اللحجية إلى مدار مجرّي تدور حوله رموز الهوية والانتماء.هي غناء، نعم، لكنها أيضًا كتابة على الحافة: حافة الشعر والمكان، وحافة المفهوم واللاوعي الجمعي.في إحدى تلك الأمسيات التي أشار إليها المقال، اجتمعت النخبة في دار الباشراحيل – آل الكلمة والوفاء – بحضور الأمير عبده عبدالكريم وآخرين، وانبرى الحاضرون لتفكيك "البدرية". طال النقاش، وتحلّق الذكاء حول المعنى دون أن يلامسه. فابتسم المرشدي الكبير وقال:"لقد كانت لنا أمسية كهذه في العام 1982 في المنصورة، بحضور عمر الجاوي وأبو بكر السقاف، ولم نصل – أيضًا – إلى نتيجة." لكن غاية القمندان لم تكن النتيجة، بل الغواية.
فبعض النصوص لا تُفسّر، بل تُسكن وتُعاش، وتُغنّى كأنها تعويذة المكان. "البدرية" واحدة من تلك القصائد التي كتبها القمندان، لا ليشرحها، بل ليخفيها وسط الرقص والغناء، تاركًا الشيفرة للمستقبل. ولعل في استدعاء قصة النابغة الذبياني ما يُضيء المقصد:- هناك غناء يفضح الشاعر (كما فعلت القينة مع النابغة)- وهناك غناء يُخفي المعنى ليحفظه من الابتذال (كما فعل القمندان)وإذا كان الأصفهاني قد قسّم الشعر العربي في "الأغاني" إلى "أصوات"، فإن القمندان رفع "الأصوات" إلى مستوى التكوين الثقافي، حيث يصبح اللحن هو القفل، والمستمع هو المفتاح... أو لعله المفتون إلى الأبد.
ولأننا على أعتاب النسخة الثانية من مهرجان القمندان المرتقب في نهاية نوفمبر بمحافظة لحج المحروسة، فإن هذه القراءات – من مقال الدكتور هشام إلى ما بين أيديكم – هي بعض من ذلك الإيقاع التمهيدي الذي يُهيّئ الجمهور للنظر إلى القمندان لا كتراث مغنّى فقط، بل كمنظومة فكرية ولغوية تنبض بالحياة وتقاوم النسيان.وتحيةً من القلب إلى اللجنة التحضيرية للمهرجان، التي يرأسها الدكتور هشام السقاف وسعادة اللواء أحمد عبدالله التركي، محافظ لحج، وإلى جميع الإخوة في الهيئة الاستشارية العليا التي شرفتُ بالانضمام إليها، وعلى رأسهم أصدقاؤنا في أسرة آل الباشراحيل، ولا سيما الصديق الأستاذ تمام باشراحيل (أبو أحلام)، رئيس تحرير صحيفة "الأيام"، الذين ظلوا أوفياء للثقافة والهوية والأصالة. فلعل هذه السطور، في جوهرها، ليست إلا محاولة للإنصات إلى ما وراء صوت "البدرية"، وتلك هي مهمة لا تنتهي... ما دام في لحج شاعر، وفي الناس طرب، وفي الكلمات مكر.