جيل الفكر المغلق.. تهديد قادم يتجاوز الجبهات والجغرافيا

في خضم انشغال الأطراف المحلية والإقليمية بتفاصيل الحرب ومآلاتها العسكرية والسياسية، يغيب عن واجهة المشهد تحدي خطير يتسلل بصمت ويمتد عميقًا في بنية المجتمع: معركة تشكيل الوعي وصناعة الإنسان. إنها المعركة التي لا تُخاض بالبندقية، بل بالمنهج والفكرة، والتي إن تُركت دون مشروع مضاد، ستعيد تشكيل المشهد الوطني – وربما الإقليمي – لعقود قادمة على أسس صدامية مغلقة.

جيل مبرمج خارج العصر
منذ ما يزيد عن عقد، تعمل جماعة الحوثي على إنشاء بنية تعليمية موازية، مغلقة، عقائدية، تتجاوز المدارس الحكومية التي خضعت بدورها لتغييرات في المناهج لتناسب خطاب الجماعة. هذه المؤسسات ليست مراكز دينية تقليدية، بل مدارس عقائدية داخلية مغلقة، تُنقّى فيها الفئة المستهدفة وفق معايير مذهبية وأمنية، ويُعزل الطالب فيها سنوات يتلقى خلالها تعاليم تتعمد إقصاء العلوم الحديثة، والتاريخ النقدي، واللغات، لصالح منظومة فكرية تقوم على الولاء المطلق، ورفض التعدد، وإعداد الجسد والعقل لحرب دائمة ضد "الآخر".
مخرجات هذه المنظومة لا تتشكل من متدينين فحسب، بل من مقاتلين مؤدلجين، مبرمجين على النفي الكامل للآخر، غير مؤهلين للتعايش أو المشاركة، بل للتحكم والإخضاع. هذا الجيل، المحروم من أدوات العصر، يخرج مزوّدًا بأدوات الهيمنة العقائدية، والتدريب العسكري، والتعبئة النفسية التي تحوّله إلى "قنبلة مؤجلة".

الخطر يتجاوز الجبهات
التهديد الذي تشكله هذه المخرجات لا يقتصر على ساحتنا الوطنية. فالمشروع بطبيعته لا يعترف بالحدود السياسية، ولا يقبل الشراكة الوطنية، ولا يرى في الاختلاف الفكري أو المذهبي سوى نوع من الكفر يستحق الاجتثاث. ومن هنا، فإن أثر هذا الجيل – إذا تُرك بلا مواجهة فكرية وتربوية – قد يمتد جنوبًا نحو حضرموت والمهرة وعدن، وشمالاً نحو السعودية، وشرقًا نحو عمان، خصوصًا مع التداخل القبلي، والانكشاف الحدودي، والتوترات المجتمعية القائمة.

الفراغ المضاد: فشل مزدوج
في مواجهة هذا المشروع التربوي–العقائدي، تقف مؤسسات "الشرعية" عاجزة ومفتّتة. فقد انهارت المدارس الرسمية، وتُرك المعلمون دون مرتبات، وتسرب الطلاب من الفصول إلى الشوارع. لا يوجد أي مشروع تعليمي مضاد، لا في المضمون ولا في الآلية. الإعلام الرسمي غائب، والوعي العام مفكك، والبديل الفكري مفقود.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد أخفقت القوى الداعمة لليمن في بلورة مشروع تنموي–تربوي يملأ هذا الفراغ. بل إن التراخي في الحسم، والاقتصار على الأدوات العسكرية دون مشروع حضاري جامع، منح الجماعة هامشًا زمنيًا نادرًا لتثبيت مخرجاتها وتوسيعها.

صناعة المصير تبدأ من المناهج
لا تُقاس موازين القوة فقط بعدد الألوية والدبابات، بل بمن يُشكّل الوعي، ومن يمتلك السيطرة على النشء. في ظل هذا المشهد، تصبح المدرسة أخطر من الجبهة، والمقرر أخطر من المدفع، والعقيدة المغلقة أخطر من السلاح.
الانتصار العسكري – إن حصل – سيكون جزئيًا وسرعان ما يتبخر إذا تُركت العقول للخصم. فالجيل الذي يُصنع اليوم في معسكرات التعليم العقائدي وفي متاهات التعليم الرسمي الغائب هو من سيقرر شكل الدولة والمجتمع بعد سنوات، سواء بالدم أو بالمؤسسات. بل إن بعض مخرجات التعليم العام، حيث تنعدم الرؤية وتغيب الرعاية، قد تُنتج هي الأخرى أجيالًا ضائعة، عرضة للاستقطاب العقائدي أو الانجراف نحو التطرف أو الانكفاء، ما لم يُعاد الاعتبار للمؤسسة التربوية بوصفها حجر الزاوية في مشروع الدولة.

موجهات استراتيجية لمواجهة التهديد
1- إعادة الاعتبار للتعليم العام كمشروع سيادي لا يقل أهمية عن بناء الجيوش. يجب دعم المعلمين، تحديث المناهج، وخلق بيئة تعليمية جاذبة ومحصّنة من الاختراق العقائدي.
2- بلورة مشروع إعلامي–ثقافي مضاد يشتبك مع السردية الحوثية ويُقدّم بديلاً وطنيًا جامعًا لا طائفيًا ولا إقصائيًا.
3- استحداث برامج إعادة تأهيل نفسي وفكري لأبناء المناطق المحررة من قبضة الجماعة، لفك برمجة العقول واستعادة إمكانية التعايش.
4- شراكة إقليمية تربوية وتنموية، تركز على بناء الإنسان لا فقط على تسليح الجيوش، من خلال مراكز تنموية وتربوية تحاكي احتياجات البيئة اليمنية الهشة، وتقدّم نموذجًا بديلًا للمؤسسة العقائدية الحوثية.
5- خلق نخبة تربوية ومجتمعية جديدة تحمل مشروعًا وطنيًا مستنيرًا، وتشكل النواة لتغيير مستدام من الداخل، لا يُعتمد فيه على الخارج وحده.

الخاتمة
نحن أمام لحظة فارقة: إما أن نخوض معركة الإنسان، أو نستسلم لانتصار العقيدة المغلقة. ومن يتجاهل التربية، سيُهزم ولو امتلك السلاح، لأن من يشكل العقول، هو من يحصد المصير.