شعبنا بين معاول جشع الداخل وأطماع الخارج؟

في بلادنا،أصبح الموت عنوانًا لكل شيء. لم يعد الغريب غريبًا،ولا الفاجعة حدثًا استثنائيًا؛الحرب هنا لم تعد طارئًا يطرق حياتنا أحيانًا،بل صارت عادةً يومية تُسقي الناس المرارة كما يُسقى الخبز، وتسكب في قلوبهم وجعًا يزداد مع كل صباح جديد.كل شارع يهمس بأسى، وكل بيت يحمل دمعة لا يعرف لها أحد طريقًا إلى التئام الإنقسام ينهش أوصال المجتمع كما ينهش الذئب الجائع فريسته الرواتب مقطوعة منذ أشهر،والكهرباء والمياه نادرة،تحولت من حقٍّ عام إلى سلعة تُباع بأسعار فاحشة طوابير الناس خلف شاحنات الدقيق أو الغاز صارت مشهدًا يوميًا لموتٍ بطيء جماعي والمتقاعدون الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن صاروا يتسولون رواتبهم التي لا تكفي لتأمين لقمة عيش بسيطة وكأنّ سنواتهم ضاعت هباءً،وتضحياتهم لم تكن سوى وقود لحروبٍ صنعها الطامعون.

الغذاء صار حلمًا بعيدًا،تتساقط أسعاره كما تتساقط أوراق الخريف،والفقر والجوع يبتلعان أحلام البسطاء كما تبتلع الرمال خطى المارة في صحراء قاحلة. المساعدات الإنسانية صارت شبه إلزامية للبقاء على قيد الحياة،ومدارس الأطفال أغلقت أبوابها،بينما الجامعات تحولت إلى ساحات للولاء السياسي بدل أن تكون منابر للعلم والمعرفة.الشباب،الذين يفترض أن يكونوا قوة المستقبل،وجدوا أنفسهم إما في خنادق الحرب أو على متن قوارب الهجرة غير الآمنة،تاركين خلفهم أحلامًا معلقة،وطموحات ذهبت أدراج الرياح،وجيل كامل فقد أدوات التنمية والتعليم،ليصبح مجرد رقم في إحصاءات مأساوية.

هنا كل بيت يحمل قصة دمعة،وكل شارع يروي حكاية صبرٍ يابس وجرحٍ لا يندمل.الجميع يعيشون بين خوفٍ لا ينتهي وجوعٍ لا يرحم وذلٍّ لا يغادر تفاصيل حياتهم.يبحث الناس عن لقمةٍ لأطفالهم،فيجدون الأسعار ترتفع كما لو أنّ الهواء نفسه صار سلعة.يبحثون عن دواءٍ فلا يجدون إلا صيدليات فارغة أو أسعارًا فوق طاقتهم.يبحثون عن الأمان فلا يرون إلا نقاط تفتيش وخطوط تماس وأسلاكًا شائكة.ومع كل أزمة، يتحول الناس إلى مجرد أرقام في تقارير المنظمات الدولية،تُكتب على أوراق باردة بينما القلوب هنا تنزف يوميًا.

والسبب يا صديقي طبقة من المتنفذين المحليين،بدعم من قوى خارجية والحديث عنهم ليس توصيفًا لأشخاص معدودين،بل وصف لطبقة كاملة صنعت من الدماء سلعة،ومن الخراب موردًا،ومن الجوع وسيلة للسيطرة.يبتكرون الأزمات كما يبتكر الصناع أدوات جديدة،يزرعون الكراهية والانقسام في قلوب الناس ويبيعون الموارد الأساسية كما يُباع النفط، ويتاجرون بالأشلاء كما يتاجر الآخرون بالذهب.يرفعون شعارات الوطنية والحرص على الشعب،لكنهم في الخفاء لا يرون في حياة الناس سوى وسيلة للربح، وفي وطننا سوى غنيمة تُنهب.وكلما سالت الدماء تضخمت ثرواتهم،وكلما تعمّق الانقسام ازداد نفوذهم،وكبر رصيدهم،واتسعت قصورهم،ولو كان ثمن ذلك جثث الأبرياء.

لكن هل يُعقل أن يبقى هذا الشعب رهينة إلى الأبد؟هل يُعقل أن يُكتب عليه أن يعيش بين موتٍ وجوع،بين صمتٍ دولي وطمعٍ داخلي؟ كأن القدر قرر أن يُبقي هذه الأرض ساحةً مفتوحة للوجع، وأن يُبقي أهلها أسرى بين مطرقة الحرب وسندان الجشع.صحيح أن الإجابة ليست سهلة،وأعمق من أن يُلتئم بالكلمات،لكننا نعرف أن هذا الوطن لم يُخلق ليكون سلعة، ولا هؤلاء البسطاء خُلقوا ليكونوا ضحايا دائمين.قد يطول الليل،وقد يشتدّ الوجع، لكن لا بد أن يأتي فجر يعيد للناس حقهم في حياة كريمة،ويقتلع تجار الحرب من جذورهم كما تُقتلع الأعشاب السامة من أرضٍ أنهكها العطش.