أنا بخير...
جلست ذات يوم إلى صديق لي، وقد بلغ به من الغمّ، والحُزن مبلغاً كبيراً، وضعت يدي على كتفه، وقلت له ما بك يا صديقي؟ أخبرني بالذي أرهق فكرك ووجدانك، فلقد وصل صدى وجعك إلى أحشائي، أخذ نفساً عميقاً، نفس العاجز، نفس الحائر، نفس من نزلت بساحته كل خطوب الدنيا، وقال لي: اه اه! عن ماذا أخبرك؟ وبماذا أتكلم؟
وقلت له بصوتٍ يملؤه الأمل، ويسوده التفاؤل، ليس، لأن الواقع كذلك، ولكن كي أخفف عنه ما به، وأنا يملؤني الغم، والحُزن أضعاف ما به، ولكنني عاهدت نفسي ألا أُبدي وجعي وانكساري، عاهدت نفسي أن أكون بلسماً لمن حولي، عاهدت نفسي بأن أكون أملأ للحائرين، عندها قلت له وانا ابتسم، يا صديقي الحياة قصيرة وسوف تمر بحلوها ومرها، ابتسم فمن منَّا ليس به جرح ووجع.
قام بالتفكير لثانيتين فقط، فرد عليّ بصوتٍ يخرج من عمق عبءٍ قد طال أمده: كلماتك حسنة، يا صاحبي، لكنها لا تُنقي ما في صدري من غبار، كيف أبتسم وقد انكسر ما كان من أملي؟ كيف لأحتمل ضياع من أحببت، وخسارة تُثقل كواهل الأيام؟.
وقفتُ أستمع، لا أُجادل، لأن في الاستماع علاجًا أعمق من أي حرفٍ معسول، سمعتُ بين شِكواه أنينه، وبين أنفاسه تكسّر أملٍ كبير، فتذكّرت أنّ الكلام أحيانًا لا يداوي كل الجراح، لكن حضناً صادقًا يمكن أن يهب القلب ما يحتاجه، ثقة بأنّه لا يسير وحده في هذا الطريق.
فمددتُ له يدي أكثر، ولم أقل شيئًا لبعض الوقت سوى أنا هنا بجانبك، قد لا أمتلك كل الحلول، لكن إن أردتَ أن تفرغ ما في قلبك فأنا أقبل أن أصغي بدون حكمٍ أو نصيحةٍ مُلحة، فالبكاء بين أحضان الأصدقاء ليس ضعفًا؛ بل هو طريقة لتنظيف القلب من ثِقله.
لم أنهِ كلامي حتى انفجر في البكاء، ولم يخفُ ذلك عنّي، لكنّي لم أبدُ له نفورًا، جثا أمامي ألمُه وكسرُه، وجلستُ معه على هامش السكون، نستقبل الألم بلا لَوْم، نمنحه ما يحتاجه من حضورٍ حنون، وبعد دقائقٍ صمتٍ طويلة، قال لي وهو ينهض ببطء: كأنّ الكلام صار أخفّ الآن، وكأنّ حضنك قد أعطى لجرحي ترخيصًا للصبر.
ابتسمتُ، وقلت له: لحياة تحفل بالخسارات، لكن ليس كل خسارة تهزمنا، فبعضها يُعلّمنا كيف نكون أقوى؟ وبعضها يعلّمنا كيف نحتضن غيرنا؟ لا أعدك بزوال كل الهموم، لكني أعدك أن لا أتركك تواجهها بمفردك، فأنا بجانبك دائماً
وقفتُ معه، ومضينا نخطو ببطء في دربٍ مؤقتٍ من الأمل، ليس لأن الهم اختفى، بل لأن وجود من يشاركك العبء يُخفف من وزنه، ويمنح القلب فسحةً يتنفس فيها، وفي تلك الفسحة الصغيرة نما له نورٌ خافت، كافٍ لأن يؤكد له أن الليل وإن طال، فالفجر قادم لا محالة.
نعم أنا لست بخير بنفسي، لكنني بخير بصديقٍ وفي، صديق يكن وقت ضيقي.
الآن فقط أنا أصبحت بخير يا صديقي..
وللقصة بقية يا صديقي...
ودمتم سالمين
د. فوزي النخعي