«الشيبلي» في حضرموت

في ذاكرة حضرموت، تظل زيارة الدكتور عبدالرحمن صالح الشبيلي، المؤرخ والإعلامي والأكاديمي السعودي البارز، محطة مضيئة تستعيدها الأجيال بامتنان. فقد كان الشيبلي –رحمه الله– واحدًا من الأصوات المرموقة في المشهد الثقافي والإعلامي السعودي والعربي، ممن آمنوا بدور الثقافة في مدّ الجسور بين الشعوب وتوثيق أواصر القربى عبر المعرفة.

هذه الذاكرة جُمعت ووُثقت في كتاب حمل عنوان «الشيبلي وذكرياته في حضرموت»، أعده الإعلامي المثابر «عبدالعزيز محمد بامحسون» ، ليخلّد حضور الرجل في هذه الأرض العريقة وما تركه من أثر إنساني وفكري.

حلّ الشيبلي في حضرموت مرتين؛ الأولى في فبراير 2008م ضمن وفد من الأدباء والمثقفين والإعلاميين، جاء برعاية خميسية مؤرخ الجزيرة العربية حمد الجاسر ومركزه الثقافي بالرياض، وكان الهدف تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين النخب اليمنية والسعودية.

أما الزيارة الثانية فكانت في أبريل 2010م، عندما شارك ضمن وفد ثقافي سعودي في فعاليات تريم عاصمة الثقافة الإسلامية 2010، وخلالها ألقى محاضرة في مركز بلفقيه الثقافي بعنوان: «اليمن في تراث حمد الجاسر.. من كتاتيب الرياض إلى المجاميع العربية».

في محاضرته، قدّم الشيبلي قراءة ثرية لما سجّله أستاذه حمد الجاسر حول اليمن وحضرموت، مشيرًا إلى أنه رصد في مكتبة الجاسر الخاصة أكثر من (103) مادة علمية بين مخطوطات وكتب وتقارير ورسائل تتعلق بتاريخ اليمن عامة وحضرموت خاصة.

وذكر الشيبلي إن الجاسر، في رحلاته المتعددة، كان يبتهج كلما وجد أثرًا أو مخطوطًا ذا صلة بتراث جنوب الجزيرة العربية. فحين زار مكتبة الفاتيكان عام 1980م اكتشف فيها ديوان علي بن المقرب بخط يمني، وفي ميونيخ عام 1987م حرص على حضور معرض الحضارة والفن اليمني الممتد لثلاثة آلاف عام.. كما توقف في مكتبات إيطاليا والهند عند مخطوطات نادرة عن تاريخ اليمن، أبرزها «صفة جزيرة العرب» للهمداني و«تاريخ اليمن» للرازي.

ولم يكتفِ الجاسر بجمع المخطوطات ورصدها، بل حقق بعضًا منها، وأبرزها كتاب «البرق اليماني» لمؤلفه قطب الدين محمد بن أحمد النهر والي (المتوفى 990هـ/1582م)، وهو سجل تاريخي مهم عن أحداث اليمن في القرن العاشر الهجري. وقدّم الجاسر لهذا الكتاب بمقدمة علمية قاربت الثمانين صفحة، فأعاد إحياء نص تراثي يمني أصيل.

لم يكن حديث الشيبلي عن اليمن مجرد سرد علمي، بل كان شهادة وجدانية عن ارتباط رواد الثقافة السعودية بتاريخ جنوب الجزيرة العربية، وعن شغفهم بالبحث والتوثيق والاعتراف بفضل المخطوطات اليمنية في إثراء المكتبة العربية.

ومن بين الأسماء التي لم يغفلها، أشار الشيبلي إلى ابن حضرموت عبدالله بلخير (1913م)، الذي مثل أحد وجوه العلاقة المتشابكة بين اليمن والمملكة، بما حمله من إسهامات ثقافية وشعرية وسياسية.

اليوم، وبعد أن غيّبه الموت في 30 يوليو 2019م، يبقى عبدالرحمن الشيبلي حاضرًا في وجدان حضرموت، ليس كزائر بل كصوتٍ وثّق ذاكرة المكان وربطها بتاريخ الجزيرة العربية بأكملها.. وزياراته وما دوّنه من شهادات و انطباعات يشكّلان جسرًا من الاحترام المتبادل والتقدير للتراث اليمني عامة الذي طالما أغنى الثقافة العربية والإسلامية.