قراءة في تصريحات الزبيدي.. بين الواقعية السياسية وتفريط التفويض الشعبي

أثارت تصريحات عيدروس الزبيدي الأخيرة على قناة الحرة من نيويورك جدلًا واسعًا في الأوساط الجنوبية، بعد أن قال في مقابلة تلفزيونية إن المجلس الرئاسي يمثل الشمال والجنوب، وإن الحوثي هو العدو المشترك للطرفين، مؤكدًا استمرار الشراكة في هذا المجلس حتى القضاء على الحوثي. كما أضاف تصريحًا أكثر إثارة حين قال إن تعز ومأرب تريدان الانضمام إلى الجنوب، وإنه لا يمانع في ذلك.

هذه العبارات التي قد تبدو عابرة في نظر البعض، حملت في مضمونها تحولًا لافتًا في خطاب الزبيدي الذي كان إلى وقت قريب يرفع شعار استعادة الدولة الجنوبية ويؤكد أن “الجنوب قضيته غير قابلة للتنازل أو التأجيل”. فما الذي تغيّر؟ وهل نحن أمام إعادة صياغة للوحدة اليمنية بشكل عادل؟ أم أمام تراجع عن الثوابت التي فُوّض من أجلها الزبيدي؟

أولًا: الواقعية السياسية وضغوط المرحلة

من الواضح أن الزبيدي بات يدرك حجم التعقيدات التي تحيط بالمشهد اليمني، وأن الحديث عن الانفصال في ظل الحرب وتعدد القوى الإقليمية قد لا يكون واقعيًا أو مقبولًا دوليًا. فالمجتمع الدولي، ومعه التحالف العربي، لا يريد ظهور كيانين متنازعين على الأرض في لحظة ما تزال فيها جماعة الحوثي تهدد الأمن الإقليمي والممرات الدولية.

من هذا المنطلق يمكن تفسير تصريح الزبيدي على أنه محاولة لتقديم نفسه كشريك وطني في مواجهة الحوثي، لا كطرف انفصالي، في رسالة موجهة للرياض وواشنطن وأبوظبي بأن المجلس الانتقالي أصبح أكثر نضجًا ومرونة، وقادرًا على إدارة معركة الدولة قبل الخوض في معركة الانفصال.

بل يمكن القول إن الرجل يسعى لإعادة صياغة مفهوم الوحدة ضمن ما يشبه “اتحادًا بشروط جديدة”، يمنح الجنوب صلاحياته وموارده، لكنه لا يُعلن الانفصال رسميًا، في انتظار لحظة نضج إقليمي ودولي تسمح بتلك الخطوة.

ثانيًا: التفريط في التفويض الشعبي الجنوبي

لكن في المقابل، فإن هذه التصريحات صدمت الشارع الجنوبي، الذي رأى فيها تناقضًا مع كل ما رُفع من شعارات خلال السنوات الماضية. فالقضية الجنوبية بالنسبة لأبناء الجنوب ليست مجرد ورقة سياسية أو بند تفاوضي، بل قضية هوية ودماء وتاريخ طويل من التضحيات.

حديث الزبيدي عن أن تعز ومأرب “ترغبان بالانضمام إلى الجنوب” بدا للكثيرين مزاحًا سياسيًا غير موفق، لأنه ببساطة يميع القضية الجنوبية ويُظهرها بلا حدود ولا تعريف. أما قوله إن المجلس الرئاسي يمثل الشمال والجنوب، فقد اعتبره أنصاره نوعًا من الذوبان في مشروع السلطة الحالية، وخروجًا عن مسار “استعادة الدولة” الذي التفوا حوله.

الزبيدي في هذه اللحظة بدا وكأنه فقد التوازن بين متطلبات السياسة ومطالب الشارع، فبينما يحاول أن يكون رجل دولة أمام الخارج، ظهر في الداخل كمن يتنازل عن رمزية الحراك الجنوبي التي صعد بها إلى الواجهة.

ثالثًا: بين الشراكة المرحلية والمصير النهائي

يمكن القول إن الزبيدي لم يتخلّ عن فكرة الجنوب، لكنه جمّدها مرحليًا ريثما تُحسم المعركة مع الحوثي، وهو ما عبّر عنه بوضوح حين ربط مستقبل الدولة اليمنية بالقضاء على الحوثي. غير أن الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه هو سوء إدارة الخطاب، لأن تأجيل القضية لا يعني طمسها، والتهدئة لا تعني التنازل.

الشعوب التي منحت قيادتها تفويضًا تستحق أن تُخاطَب بوضوح واحترام، لا بلغة غامضة قد تفتح باب الشكوك وتزرع الخيبة في صفوفها.


خلاصة القول يمكن أن نقول إن تصريحات الزبيدي الأخيرة يمكن قراءتها من زاويتين متناقضتين:

من زاوية الدولة والسياسة: هي محاولة لإعادة بناء الشراكة الوطنية في مواجهة العدو الحوثي، تمهيدًا لوحدة عادلة ومستقرة.

ومن زاوية القضية الجنوبية: هي تنازل مبكر عن تفويض شعبي حمله الزبيدي منذ انطلاق الحراك الجنوبي، وتحوّل في خطابه من زعيم قضية إلى موظف في توازنات السلطة.

في النهاية، لا يمكن لأحد أن يمنع التحول السياسي، لكنّ القادة يُختبرون في قدرتهم على الوضوح والثبات على المبادئ، لا في قدرتهم على تغيير الخطاب كلما تغيّر المشهد.
ويبقى السؤال:
هل يكتب الزبيدي بداية مشروع “وحدة عادلة جديدة” تنقذ اليمن من التفكك؟
أم أنه يفتح الباب لانقسام جديد في الجنوب نفسه هذه المرة؟