د.فوزي يونس: الأبقار والدواجن تدفع ثمن الاحتباس الحراري.. الإجهاد الحراري الحيواني

(أبين الآن) متابعات
يشهد كوكب الأرض تغيرا مناخيًا غير مسبوق ينعكس على كل مكونات النظم البيئية من التربة والمياه إلى الكائنات الحية الدقيقة والحيوانات الزراعية.
ومع تزايد متوسط درجات الحرارة وارتفاع تواتر موجات الحر في معظم مناطق العالم، تتعرض الثروة الحيوانية لضغوط فسيولوجية تهدد استدامتها.
فقد أظهرت دراسات حديثة أن الأبقار والدواجن والأغنام والماعز باتت تواجه صعوبة متزايدة في الحفاظ على توازنها الحراري مما يجبرها على زيادة معدل تنفسها بنسبة قد تصل إلى 68٪ في محاولات يائسة للتبريد.
هذه الظاهرة وإن بدت بسيطة في ظاهرها، تمثل في حقيقتها مؤشرا خطيراً على تراجع كفاءة الإنتاج الحيواني إذ يؤدي الإجهاد الحراري إلى انخفاض إنتاج الحليب وتراجع الخصوبة وارتفاع معدلات النفوق وتدهور جودة اللحوم والبيض.
ولا يقتصر الخطر على الحيوانات فحسب بل يمتد ليشكل تهديدا مباشرا على الأمن الغذائي العالمي خصوصاً في ظل توقعات ببلوغ عدد سكان الأرض نحو عشرة مليارات نسمة بحلول عام 2050 ما يزيد الضغط على الموارد الطبيعية.
إن هذه “الكارثة الصامتة” تمثل أحد الوجوه الخفية لتغير المناخ الذي لا يقتصر أثره على ذوبان الجليد أو تراجع التنوع البيولوجي بل يمتد إلى صميم سلة الغذاء العالمية.
انبعاثات الكربون وخطره على الحيوانات
كارثة صامتة على الأبواب
فكيف ستجعل موجات الحر المستقبلية تنفس الماشية أسرع حتى 68٪ — وماذا يعني ذلك للأمن الغذائي؟
بداية من خلال النتائج الناتجة من دراسات قائمة علي نماذج مناخية وبيانات حقلية من دول مثل البرازيل وإسبانيا وإيطاليا يتنبأ بأن موجات الحرارة المتزايدة خلال هذا القرن قد تضطر بعض الحيوانات الأليفة — خصوصًا الصغيرة (الأغنام والماعز) وبعض فئات الأبقار والدواجن — إلى زيادة معدّل التنفّس كآلية تبريد بمقدار يصل إلى 68% في بعض السيناريوهات.
هذا التحوّل الفسيولوجي ليس مجرد إحصائية: هو مؤشر صريح على أن الحيوانات ستصرف طاقة أكبر للبقاء على قيد الحياة وبالتالي طاقة أقل للإنتاج (حليبا – بيضا – لحما) — ما يضع ضغوطًا مباشرة على سلاسل الإمداد والغذاء.
ماذا تعني زيادة معدل التنفس عمليا؟
1. استنزاف الطاقة وإنتاج أقل: زيادة معدل التنفّس تعني استهلاك طاقة أكبر للتبريد (جنبًا إلى جنب مع ارتفاع ضربات القلب وإفراز الماء)؛ النتيجة المتوقعة هي انخفاض في استهلاك العلف، تباطؤ النمو وتراجع إنتاج الحليب والبيض واللحم في الحيوانات عالية الإنتاج.
2. مخاطر صحية مباشرة: ارتفاع الإجهاد الحراري يرفع مخاطر الإصابة بانهيار التوازن الحراري والجفاف تدهور وظيفة الأمعاء وزيادة الحساسية للأمراض والطفيليات — وكلها تزيد من معدلات النفوق والتكاليف البيطرية.
3. تغاير بين الأنواع والسلالات: النتائج تشير إلى أن الأبقار الحلوب والدواجن هي الأكثر عرضة للضرر بسبب إنتاجيتها العالية واحتياجاتها الأيضية بينما بعض سلالات الأبقار المنتجة لللحم والاغنام والماعز — خصوصا المحلية والمتكيفة — تظهر قدرة أكبر على التحمل. لذلك سيزداد التفريق المكاني والنسلي في الخسائر المتوقعة.
لماذا تصل التبعات إلى مستوى الأمن الغذائي؟
انتشار التأثير: معظم مناطق الإنتاج الحيواني العالمية ستعاني من زيادة في تواتر وشدة موجات الحر؛ هذا لا يؤثر فقط على المزارع الكبيرة بل يضر بالناشرين الصغار الذين يفتقرون للبنية التحتية للتبريد.
تكاليف التكيّف: تركيب مراوح ورشاشات وأنظمة تبريد وظل اصطناعي (تظليل) وتعديلات في التغذية يرفع التكاليف التشغيلية؛ في البلدان النامية قد يؤدي ذلك إلى خفض قطعان المنتجين الصغار أو بيعها ما يضغط على الإمدادات المحلية.
تزامن مع ضغوط أخرى: تزايد السكان (تقديرات 10 مليار بحلول 2050) مع تضاؤل المياه الصالحة للري وتدهور المراعي يجعل أي انخفاض في الإنتاج الحيواني أمراً ذا أثر كبير على الأمن الغذائي المحلي والإقليمي.
من من الأنواع الحيوانية سيتأثر أكثر (مَن الأكثر عرضة)؟
* الأبقار الحلوب (dairy): إنتاج مرتفع = حساسية أعلى للحرارة؛ تراجع الحليب ملحوظ في موجات الحر.
* الدواجن: طيور البياض واللحوم عرضة بسبب كثافة الإنتاج ومعدل التمثيل الغذائي السريع.
* الصغار (الغنم/الماعز): النتائج تشير إلى أن بعض نظم تربية الأغنام والماعز في نصف الكرة الشمالي قد تعاني بشدة بينما سلالات جنوبية محلية قد تكون أكثر قدرة على التحمل.
الأدلة العلمية الداعمة (مختصر المراجع الأساسية):
تقرير/دراسة عرضتها مؤسسات وأبحاث حديثة (تقييم تعرّض المواشي لموجات حرارة مستقبلية؛ نماذج لسيناريوهات 2050–2100) — أدوات النمذجة توقعت زيادات تصل حتى ~68% في معدل التنفّس لبعض الفئات الحيوانية في نصف الكرة الشمالي.
مراجعات بحثية واسعة تناولت أثر الإجهاد الحراري على الأبقار والدواجن وخلصت إلى تأثيرات سلبية على الإنتاج والتكاثر والصحة العامة.
دراسات سابقة (Thornton et al. 2021 وغيرهم) التي وثقت ارتفاع مخاطر الإجهاد الحراري في معظم أنحاء العالم خلال القرن الحادي والعشرين.
ما الذي يمكن عمله — إجراءات عملية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد:
* عاجل / قصير الأمد (عملية ومباشرة):
توفير ظلال، تحسين التهوية وتركيب مراوح ورشاشات مائية في الحظائر المكثفة.
تعديل مواعيد الرعي والتغذية إلى الصباح الباكر والمساء لتقليل التعرض الحراري.
* متوسط الأمد (تقني / إداري):
تدريب المزارعين على رصد مؤشرات الإجهاد (مثل معدل التنفّس >60–100 نفس/دقيقة في الأبقار) واتخاذ إجراءات التبريد الفورية.
تحسين نظم التغذية (مركبات عالية الطاقة ولكن سهلة الهضم، مكملات مائية/إلكتروليتية) لتقليل فقد الأداء أثناء موجات الحر.
* طويل الأمد (استراتيجية جينية وسياساتية):
برامج تحسين وراثي لتركيز خصائص تحمل الحرارة: إدخال صفات التحمل من السلالات المحلية أو استخدام تقنيات اختيار متقدمة.
دعم الابتكار في تربية السلالات الحيوانية المقاومة للحرارة وتطوير سلالات هجينة تجمع بين الإنتاجية والتحمل.
سياسات دعم للمزارعين الصغار لتمويل تدابير تبريد منخفضة التكلفة (قروض ميسّرة ومنح وشبكات تعاون).
توصيات للباحثين وصانعي السياسات والقطاع الخاص
1. مراقبة فسيولوجية ونمذجة: توسيع محطات رصد الإجهاد الحراري وربطها بنماذج مناخية إقليمية لتنبؤات مبكرة واستهداف الموارد.
2. استثمارات في البنية التحتية للتبريد مع أولويات للمزارع الحيوية والمنتجين الصغار.
3. برامج بحث وتمويل لتسريع برامج التحسين الوراثي والتقييمات الاقتصادية لتكلفة التكيّف مقابل تكلفة الخسارة في الإنتاج.
4. تكامل السياسة الزراعية والمناخية: إدراج دعم تكيّف القطاع الحيواني في خطط الأمن الغذائي الوطنية واستراتيجيات التغير المناخي.
وفي النهاية فإن النتائج الحديثة ليست مجرد تحذير علمي بل نداء للعمل ودعوة عاجلة لصانعي القرار والمزارعين والباحثين: إذا لم تستثمر المجتمعات الآن في مزيج من التكنولوجيا والبنية التحتية والاختيار الوراثي فسنواجه منظومة غذائية أكثر تقلبا وأضعف قدرة على تلبية الطلب العالمي المتزايد. التكيّف ليس خيارا رفاهيا بل شرط بقاء للنظم الغذائية في عالم أكثر سخونة.
وكذلك أمام تسارع وتيرة الاحتباس الحراري وتزايد موجات الحر في المناطق الزراعية أصبح من الضروري أن يتحول الحديث عن التكيف مع تغير المناخ من توصيات نظرية إلى خطط تنفيذية عاجلة.
فمستقبل الثروة الحيوانية لن يتوقف عند حدود إنتاج الأعلاف أو المياه فحسب بل عند قدرتنا على تطوير سلالات مقاومة للحرارة، وإعادة تصميم أنظمة التربية والإيواء لتكون أكثر استدامة وكفاءة في استهلاك الطاقة والماء.
الاجهاد الحراري للحيوانات وخطر الاحتباس الحراري
كما يجب أن تتكامل جهود الباحثين والمزارعين وصناع القرار في إطار سياسات وطنية وإقليمية تدرج القطاع الحيواني ضمن خطط التكيف المناخي تمامًا كما تدرج الطاقة والمياه والزراعة النباتية.
إنّ أزمة الإجهاد الحراري في الماشية ليست مجرد تحدٍ بيئي بل إشارة إنذار مبكر لأزمة غذائية عالمية قادمة إذا لم يتخذ التحرك الكافي.
فالحفاظ على توازن المناخ يعني الحفاظ على الغذاء وحماية الثروة الحيوانية هي في جوهرها حماية للأمن الغذائي والاقتصادي والإنساني للأجيال القادمة.