خديعة الحياد!
في زمنٍ يتنازع فيه صوت المظلوم مع أنين الجائع، ويرتفع فيه ضجيج الباطل حتى يغطي على همس الحق؛ صار الحياد شعارا يتخفّى خلفه كثيرون. بعضهم يظنه نجاة، وبعضهم يراه حكمة، وبعضهم يتعبد بالصمت كأن الوقوف على الهامش فضيلة. والحقيقة المرّة أن الحياد بين الحق والباطل خيانة للحق، وميل خفيّ نحو الباطل، وأن الله لا يرضى لعبده أن يقف بين النور والظلمة متفرجا؛ فالحق لا يقوم؛ إلا برجال صدقوا، والباطل؛ لا ينتفخ؛ إلا بصمت المتخاذلين.
الحياد فضيلة فقط؛ حين يكون في ميدان البحث عن الحقيقة؛ لكنه في ميدان المواقف ضعف وجبن وتواطؤ؛ فالصمت أمام الظلم ليس حيادا؛ بل مشاركة فيه؛ لأن من يرى الجريمة ويسكت عنها؛ قد رضي بها قلبه، ومن رضي بالباطل؛ صار شريكا في وزره. قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113]؛ أي لا تميلوا إليهم ولو ميلا يسيرا؛ فالميل إلى الظالمين خذلان للحق وموافقة ضمنية على ظلمهم.
والحياد في زمن الفتنة ليس سلامة؛ بل انحياز ضمنيّ للظالم. كيف يكون محايدا من يرى دماء الأبرياء تُسفك وكرامات الناس تُهان ثم يقول: "لا أتدخل في السياسة"؟! ليست القضية سياسة يا هذا؛ بل قضية حق وباطل، وعدل وظلم، وكرامة وإهانة..!
لقد علّمنا القرآن أن الحياد في القيم خيانة؛ فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: 110]؛ فأمة الإسلام لم تُبعث لتقف على الرصيف تتفرّج؛ بل لتقود الناس إلى الخير وتمنعهم من الشر. ولذلك أُثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله الشهير: "الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس". وهل يرضى المؤمن أن يكون شيطانا أخرس في زمن يصرخ فيه المظلومون طلبا للعدل؟!
إن القرآن لم يترك للحياد في ميدان الحق والباطل موطئ قدم؛ بل جعله من صور النفاق. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ [النساء: 75]؛ فكيف ترضى الأمة أن ترى المستضعفين يُعذَّبون وتقول: "لسنا طرفا في الأمر"؟! إن الذين سكتوا عن منكر السبت لم يُنَجَّوا؛ لأنهم اختاروا الصمت باسم الحياد؛ فهلكوا مع الظالمين، كما قال ابن كثير: "الساكتون لم يُنجَوا؛ لأنهم لم يُنكروا المنكر، فصار سكوتهم رضًا به".
ومن تأمل قصة الذين قالوا: "كنا مستضعفين في الأرض" علم أن الله لم يقبل عذرهم؛ بل قال: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97]؛ أي أن الحياد بين الإيمان والكفر ظلم للنفس وخيانة للحق.
الحياد إذن ليس ورعا؛ بل ضعف يُمهّد للظلم أن يستشري. قال ﷺ: «لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا».
فالرسول ﷺ علّمنا أن المسلم لا يكون إمّعة صامتا؛ بل ثابتا على الحق وإن خالف التيار.
أيها القراء الكرام! إن الأمة التي تبرر الحياد أمة رضيت أن تُقاد؛ لا أن تقود. والأمة التي تخشى قول الحق، تُودّع مجدها. قال ﷺ: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودِّع منهم»؛ لذاك حين يصبح الخوف من قول الحق ثقافة عامة؛ فاعلم أن روح الأمة قد انطفأت.
الأنبياء عليهم السلام لم يعرفوا الحياد قط؛ فإبراهيم عليه السلام أعلنها بجرأة: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26-27]. وموسى عليه السلام واجه فرعون دون خوف، ومحمد ﷺ قالها صريحة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ... لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. وهكذا يكون وضوح الموقف، وهكذا تُصنع الرسالات.
أما اليوم؛ فكم من إعلام صامت، ومنبر متردد، وداعية يختار “السلامة” على “الحق”! فيموت الحق مرتين؛ مرة بسيف الظالم، ومرة بصمت العالم. ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يعرف بقلبه معروفا، ولم يُنكر بقلبه منكرا".
إن الحياد في زمن الدماء ليس حكمة؛ بل تواطؤ بارد يبرر الجريمة بالصمت. ومن قال: "أنا لا أتدخل في قضايا فلسطين أو اليمن أو السودان"؛ فقد نزع عن نفسه ثوب الإنسانية؛ قبل أن ينزع عن ضميره الإيمان! لأن الموقف من المظلومين ليس شأنا سياسيا؛ بل واجب دينيّ وأخلاقي...
الحياد في العلم نزاهة؛ لكنه في القيم نفاق. والحياد قبل ظهور الحقيقة تروٍّ؛ لكنه بعدها جريمة؛ ولذلك قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]؛ فليس بعد وضوح الحق إلا التيه في ظلمات الباطل.
وحين يسكت الناس عن الباطل؛ تموت فيهم الغيرة وتنطفئ جذوة الإصلاح. وإذا كثر الحياديون؛ تجرأ الطغاة وتوسعت دوائر الفساد، وتحولت الأمة إلى قطيع؛ بلا موقف ولا كرامة؛ ولذلك قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "لا خير في قوم لا ينصحون، ولا خير في قوم لا يحبون الناصحين".
إن الأمة التي تفقد قدرتها على الغضب للحق؛ تفقد معها معنى الحياة؛ فلا خلاص لنا؛ إلا بتربية أجيال تعرف متى تتكلم، ومتى تقف، ومتى تُعلن انتماءها للحق.
قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]؛ أي لتكونوا أمة شاهدة على الحق؛ لا صامتة عن الباطل؛ فشرف الشهادة لا يُنال بالحياد؛ بل بالموقف.
وختاما؛ تذكّروا دائمًا: الحياد بين النور والظلمة ليس حكمة؛ بل خديعة. والمؤمن لا يقف في منتصف الطريق بين الجنة والنار؛ فكونوا مع الحق؛ وإن قلّ أصحابه، وكونوا شهودا؛ لا متفرجين، واصدعوا بالكلمة التي ترفع الأمة وتوقظ الضمائر؛ فالله وعد بالنصر لمن نصره: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
ودمتم سالمين!


