حين يصير ظلام الحزن نافذة على النور

بقلم: حسن الكنزلي


الحزن ليس طارئا على الروح، ولا عيبا في تكوين الإنسان؛ إنه جزء من المعمار الداخلي لقلوبنا، خلقه الله فينا ليكون لغة بين القلب والسماء؛ لا سياطا تُجلد بها النفس حتى تنكسر. ليست المشكلة في أن نحزن؛ بل في أن نستسلم لهذا الحزن حتى يُطفئ فينا الإيمان، ويعطل في أرواحنا حركة النور.

الإسلام لم يأت ليُلغي المشاعر السوداوية، ولم يأمرنا بإخفائها أو دفنها؛ بل جاء ليُهذّبها، ويحوّلها من انكسار إلى وعي، ومن ألم إلى رسالة، ومن دمعة إلى باب من أبواب القرب. ومن هنا تبدأ رحلة هذا المقال: كيف يتحول الحزنُ إلى بصيرة؟ وكيف يُصبح السواد نورا داخليا يهدي الخطى ويُقوّي الروح؟

ليست السوداوية مزاجا متقلبا، ولا غيمة تمر وتنقشع؛ إنها لحظة كشف عميقة، حين تسقط الأقنعة، وتتوارى الأماني، وتتجلى حقيقة هشاشتنا. وصفها الأطباء منذ قرون؛ لكن الوحي قدم لها علاجا لا تقدمه العلوم: أن يرفع الإنسان رأسه من بين ركام الألم؛ ليرى أن للحزن وظيفة تربويّة، وأن للدموع أثرا لا يُدركه إلا القلب اليقِظ.

ابن سينا قال إن غلبة السوداء تُورث “الفكر الطويل والحزن الدائم”. أما القرآن فذهب أبعد من التشخيص؛ إذ وجّه هذا الحزن ليكون مدخلا للسكينة: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾. هذا هو الفارق بين حزن مشروع يُهذّب الروح، ويأس محرّم يخنقها. الأول يُقرّبك من الله، والثاني يقطعك عنه.

يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضّت عيناه، ولم يَعتب عليه ربّه؛ لأن حزنه كان لله، لا على الدنيا. والرسول ﷺ بكَى لوفاة ابنه إبراهيم، وقال كلمته الشاهدة الخالدة: «وإن القلب ليحزن... ولا نقول إلا ما يرضي ربنا»؛ فكان حزنه هذا عبادة، ودمعته نورا، وكسْره قوة.

والسلف الصالح رأوا في الحزن مدرسة للخشوع؛ لا بابا لليأس. قال الحسن البصري: "إن المؤمن أحزنه ما أحزنه"؛ لكن حزنه كان على ما فاته من طاعة؛ لا على زخارف الدنيا.

السوداوية لا تسكن النفوس السطحية؛ بل القلوب العميقة، التي ترى ما وراء الأشياء، وتسمع ما لا يُسمع. ومن شدة ما ترى؛ تحزن. هي ليست ضعفًا؛ بل علامة حساسيةٍ عالية، ووعيٍ مرهف؛ فزكريا عليه السلام نادى ربّه “نداءً خفيًا”؛ صوت قلبٍ حزين، لكنه وعيٌ ناضج يوجّه حزنه إلى السماء لا إلى الفراغ.

والمجتمعات الحديثة التي تفرض “السعادة الدائمة” تخدع نفسها. صورٌ مبتسمة، وقلوبٌ مكسورة. الشاشات مشعّة، والصدور مظلمة. قال علي رضي الله عنه: «إن القلوب تملّ كما تملّ الأبدان؛ فابتغوا لها طرائف الحكمة». والحزن أحد طرائف الحكمة لمن يفهمه.

من ذاق الألم لم يعد كما كان؛ فالحزن يعلّم الإنسان التواضع، ويجعله ألين مع الناس، وأصدق في النظر للحياة. ولو لم نتألم؛ لما عرفنا قيمة النعمة. ولولا الانكسار؛ لما عرفنا كيف ننهض.
قال عمر بن عبد العزيز: «ما عوّض الله عبدا صبرا إلا كان ما عوّضه خيرا مما انتزع»؛ لأن الصبر ثمرة الحزن الناضج؛ لا الحزن الفوضوي.

و“مع” العسر يُسرًا! هكذا قال القرآن، ولم يقل “بعد”؛ لأن اليسر يسكن أحشاء العسر، كما يسكن النور في جوف الليل.
من رحم الحزن وُلدت أفكار الأنبياء، وشجاعة الصالحين، وحكمة العلماء؛ بل إن لحظة الوحي الأولى نزلت على قلبٍ كان يبحث في ظلمة غار. والمعراج جاء بعد “عام الحزن”؛ فالشدائد، كما قال الشافعي، هي التي تُظهر الصديق من العدو، وتُصقِل الروح كما يصقل الحديد.

الشعراء، الفلاسفة، العلماء... كلهم عبَروا من باب الألم. من لم يذق مرارة الدواء، قال ابن القيم: "لن يعرف حلاوة الشفاء.
والروح لا تتزكى؛ إلا حين ترى نفسها على حقيقتها؛ ضعيفةً بين يدي القوي، فقيرةً بين يدي الغني". ومَن يدخل الظلام ثم يخرج منه؛ لا يعود كما دخل؛ يعود بالبصيرة.

الحزن لا يُقاتَل؛ بل يُفهَم. إنه رسالةٌ تقول لك: “لقد آن أن تراجع الطريق، وتُعيد ترتيب القلب”. قال الإمام ابن عطاء الله السكندري: “ربّ حزنٍ أورثك سكونًا إليه، خيرٌ من فرحٍ أزالك عنه”؛ فما أجمل أن يكون الحزن جسرًا؛ لا جدارًا! نورًا داخليًا؛ لا ظلمة! يقظة؛ لا انهيارًا!

لا تظن أن الله بعيدٌ عن دمعتك.
ولا تظن أن حزنك لا معنى له؛ فالله يقول لك: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾. وما دام في قلبك نبضة، ففي صدرك أمل.
والحزن مرحلة عبور؛ لا مقام إقامة. وهو نافذة على الله لمن عرف الطريق؛ فارفع رأسك، واسمح لروحك أن تبصر: ليس في الحزن نهاية؛ بل فيه بداية نورٍ جديد، يولد في الداخل.
فأسعد الله أوقاتكم، ودمتم سالمين!