ورقة أكلت أعمار اليمن
بقلم: حسن الكنزلي
ليس أخطر على الأمم من فتن تتسلّل إليها في وضح النهار، تفسد القرى والمدن، وتنهك الأجساد والعقول، وتستنزف المال والموارد، وتسرق الأعمار سرقة بطيئة لا ينتبه إليها الناس؛ إلا حين يفوت الأوان. ومن هذه الفتن التي ابتُلي بها اليمن لعقود متطاولة: فتنة القات؛ هذا البلاء الذي شقَّ البيوت، وأثقل القلوب، وخدّر الإرادة، وأضعف الاقتصاد، حتى صار جزءا من تفاصيل الحياة اليومية.
القات اليوم – كما يراه كل بصير – ليس مجرد نبات يُمضغ؛ بل مشكلة وطن، تتجاوز أشخاص المتعاطين إلى الأرض والماء والتعليم والاقتصاد وصحة المجتمع. وإن الحديث عنه ليس ترفاً فكريا؛ بل ضرورة وطنية يفرضها الواقع.
انتشر القات في المجتمع كما تنتشر النار في الهشيم؛ لا يميّز بين غني وفقير، ولا بين متعلم وبسيط، ولا بين موظف وعاطل. جلسة ظنّها الناس ساعة؛ فإذا بها تمتد أربعا وخمسا، يضيع خلالها النهار، وتتأخر الأعمال، وتتراكم الواجبات، ويخرج المرء من مجلسه مثقلاً بالكسل والإنهاك لا بالمتعة. وقد عبّر عبدالله البردوني عن هذه الظاهرة؛ فقال:
يمضغ الناسُ أعمارَهمُ ** ويُحيلون الليالي فتاتْ
وما أصدقها من شهادة!
أخطر ما في القات ليس خضرة أوراقه؛ بل سواد أثره على اقتصاد بائس يكافح للبقاء؛ ملايين الدولارات تُهدر يوميا في شراء القات؛ أموال لو جُمعت لكانت مدارس ومصانع ومستشفيات وطرقات... لكن القات يأكلها أكلا لمّا؛ موظف يفقد نصف نهاره في جلسة، مزارع يهمل حقله المنتج ليزرع شجرة قات لا تُطعم ولا تُغني، أسرة تُنفق نصف دخلها على ورقٍ يمضغه رب البيت بينما أطفاله بحاجة إلى الدواء والدفاتر.
وتتسع الكارثة حين ندرك أن القات التهم مساحات واسعة كانت يوما مزروعة بالقمح والبن والفواكه، فتحوّل المزارع المنتج إلى ورق يُمضغ ثم يُرمى... وكأننا نرمي معه مستقبل البلاد.
كم من امرأة تبكي زوجها الذي لا يعود؛ إلا عند منتصف الليل! وكم من طفل ينتظر أباه؛ ليشاركه لحظة دفء فلا يجد؛ إلا رجلاً مرهقا بجيْبٍ فارغٍ ورأسٍ ثقيل! وكم من أسرةٍ تهدمت؛ لأنها عاشت تحت سلطان هذه العادة المؤذية!
مجالس القات – في كثير من الأحيان – تتحول إلى مجالس غيبة ولغو وخصومات، تضيع فيها ساعات العمر، وتُهمل فيها الصلوات، وتذبل فيها العلاقات الأسرية التي كانت تستحق وقتا واهتماما. قال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام؛ فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك"؛ فكم ذهب من أيامنا؟! وكم سنفقد؛ إن استمرت هذه الدائرة؟!
يبدأ القات عادة كتسلية، ثم يصير عادة يومية، ثم يتحول – شيئاً فشيئا – إلى إدمان نفسي وسلوكي. انظر إلى المتعاطي بعد الجلسة: ضيق صدر، قلق وتوتر، نوم مضطرب، مزاج متقلب، خمول في الليل، وتعب في النهار... إنها أعراض إدمان مكتمل، قال ابن الجوزي: "من غلبته عادته صار أسيرا لها؛ لا يملك فكاكا". وهذا حال كثير من الناس مع القات اليوم.
القات لم يعد “نبتة بريئة”؛ المبيدات – كثير منها محظور دوليا – تُرش عليه بلا رقابة. والنتيجة: ارتفاع ضغط، اضطرابات قلب، أمراض معدة وتقرحات، تلف في الأسنان، تلوث جسدي يسمّم الدم والكبد والكلى، اضطرابات نوم وذاكرة وتركيز...
تقارير طبية محلية ودولية تؤكد وجود مركبات مسرطنة في عينات من القات تتجاوز الحد المسموح عشرات المرات؛ إنها جريمة بيئية وصحية صامتة.
ولا نبات يستنزف الماء مثل القات؛ شجرة واحدة تستهلك أضعاف ما تستهلكه شجرة الفاكهة أو البن؛ فجفّت الآبار، وتراجع منسوب المياه، وصار الناس يشترون الماء كما يشترون الخبز.
أما التربة فقد تلوّثت بالمبيدات، وتلاشت مساحات الحبوب والبن، وتحولت القرى إلى مزارع قات... وضاعت ثروة اليمن الزراعية التي كانت فخر تاريخها.
انتشر القات؛ لأن الواقع كان أرضا خصبة لانتشاره:
- فراغ هائل، وغياب الأنشطة الرياضية والثقافية.
- ضعف الوعي بالأضرار الحقيقية.
- تقليد اجتماعي قاس يخشى الناس مخالفته.
- هشاشة اقتصادية تجعل كثيرين مرتبطين برزق القات.
- غياب دور الدولة في الرقابة والبدائل.
هكذا اجتمعت الأسباب فصارت مشكلة أمة لا أفراد.
ولن نقاوم هذا البلاء إلا:
- بوعيٌ صادق؛ أن ندرك أن القات يهدم المال، الصحة، الزمن، الدين، والمجتمع...
- وقرار شخصي شجاع؛ أن يقول الفرد: كفى! ولو بالتدرّج، يوما بعد يوم حتى تنكسر الحلقة.
- وبدائل نافعة؛ رياضة، قراءة، عمل، مهارات، قهوة يمنية أصيلة، مشروبات طبيعية آمنة.
- ودور العلماء والمربين تبيين الحكم الشرعي، والدفاع عن مقاصد الشريعة؛ حفظ النفس والعقل والمال.
- ودور الدولة منع المبيدات المحرمة، وتنظيم السوق، وتشجيع زراعة البن واللوز والمحاصيل النقدية.
- ودور الأسرة قدوةٌ حسنة، وفتح أبواب الحوار، وإبعاد القات عن البيت تماما.
القات ليس قدرا محتوما؛ إنه عادة، والعادات تُهزم بالإرادة. وإنه بلاء، والبلاء يُدفع بالوعي والعمل. وإنه استنزاف للأعمار، والأعمار تُصان حين يفيق الإنسان لنفسه وأمته.
وإن اليمن يستحق مستقبلا أجمل من ورقة تُلوَّن بالأخضر وتُطلَى بالمبيد، ثم تُرمى بعد ساعات وقد سرقت من صاحِبها مالا وصحة وعُمرا.
ولعل أول خطوة نحو الخلاص أن يقول كل واحد منا: "أنا لن أكون جزءا من هذه الخسارة".
فلنقلْها ولنستعين الله على الخلاص، ودمتم سالمين!


