التحرير حين يعرّي النخب: شرعية الدم وسقوط الأقنعة
التحرير حين يعرّي النخب: شرعية الدم وسقوط الأقنعة
لم يكن تحرير الجنوب حدثًا عسكريًا عابرًا، بل لحظة فاصلة كشفت ما كان مستترًا طويلًا. فبسقوط الاحتلال العسكري، انهارت معه منظومة كاملة من الأكاذيب، وتكسّرت مرايا الوهم التي احتمت بها نخب اعتاشت عقودًا على الخطاب بلا فعل، والوصاية بلا ثمن، والشرعية بلا وطن.
وحين يعجز المهزوم عن مواجهة الحقيقة، لا يطعن الوقائع، بل يُشهّر بالتحرير ذاته؛ لأن التحرير لا يفضح هزيمته السياسية فحسب، بل يعرّي سقوطه الأخلاقي. هكذا تحوّل الانتصار في خطابهم إلى “جريمة”، والسيادة إلى “تهمة”، والدفاع عن الأرض إلى “تمرد” على شرعية لم تُنتج إلا الفشل، ولم تحمِ وطنًا، ولم تصن كرامة.
لقد كسر الجنوب قيده بإرادته، وانتزع حقه بدمائه، من دون إذن من فنادق الخارج، ولا تفويض من أبواق الإعلام، ولا مباركة من فتاوى المصالح. وهنا بدأت المعركة الأخطر: معركة السردية. فمن عجز عن تحرير الأرض، حاول احتلال الحقيقة.
نخب بلا ثمن… وخطاب بلا شرف
تقدّمت النخبة السياسية لتعلن اعتراضها، لا لأنها رأت خطأً، بل لأنها رأت نفسها مكشوفة. نخبة تعيش على البيانات، وتتغذّى من المؤتمرات، وتتنفّس عبر الخرائط. تعرف “الشرعية” حين تكون مظلة للفشل، وتنسى الدولة حين يُطلب منها البناء. وحين حرّر الناس أرضهم، صرخت: “تمرّد!” لأن التحرير أسقط احتكارها للقرار.
ثم حضرت النخبة الدينية، بفتاوى موسمية، تُجرّد النص من العدل، وتُحمّله ما يخدم السلطان. صمتت طويلًا عن الظلم، ثم استيقظت لتُحرّم مقاومته. تتحدّث عن الطاعة ولا ترى الطغيان، وعن الفتنة ولا ترى القهر. وحين استعاد المظلوم حقه، أشهرَت سيف التخوين، لأن العدل خارج حساباتها.
أما النخبة الثقافية، فقد احتمت بالمصطلح، وهربت إلى التنظير. تكتب كثيرًا ولا تقول شيئًا، تُكثر من المفاهيم المستوردة، وتخشى الحقيقة المحلية. تبرّر القمع بلغة ناعمة، وتُجمّل الخراب ببلاغة ملساء. وحين فضح الواقع النص، أصيبت بهستيريا التأويل، لأن الثقافة التي لا تنحاز للكرامة تزوير معرفي.
وجاءت النخبة الاجتماعية، نخبة الوجاهة الانتهازية، حرّاس السكون وسماسرة “الصلح” المشروط. قدّست الاستقرار حين حمى امتيازاتها، ولعنت التغيير لأنه هدّد مصالحها. تساوي بين الجلاد والضحية باسم “الحكمة”، وحين كسر الناس القيد، بكت على “النسيج الاجتماعي” — نسيجها هي.
ولم تتأخر النخبة الاقتصادية، التي حوّلت الدولة إلى شركة، والوظيفة إلى صفقة، والجوع إلى سياسة. راكمت ثروتها من الفوضى، وازدهرت على حساب الانهيار، وتخشى الدولة لأنها تعني المحاسبة. وحين استُعيد القرار، صرخت عن “الاقتصاد” وهي أصل أزمته.
وأخيرًا، ظهرت النخبة الإعلامية، نخبة الضجيج بلا حقيقة. تُبدّل السرديات حسب المموّل، وتُنتج الرأي كما تُنتج الإعلانات. تصنع البطل وتعدمه في نشرة واحدة. وحين تعجز عن مواجهة الواقع، تلجأ للتشويه، لأن الحقيقة لا تُدار بالمونتاج.
شرعية لا تُصادَر.
في مواجهة هذا السقوط الجماعي، يقف الجنوب على حقيقة واحدة لا تقبل الجدل: شرعيته ليست بيانًا، بل دمًا؛ ليست شعارًا، بل تضحيات. لم يحمل أبناؤه السلاح عشقًا للحرب، بل دفاعًا عن الوجود. لم يخرجوا طلبًا للفتنة، بل لوقفها. لم يحرروا أرضهم ليظلموا أحدًا، بل لينتهوا من الظلم.
والفرق شاسع — أخلاقيًا وتاريخيًا — بين من يحرّر أرضه ويخضّب ترابها بدمه، ومن “يناضل” تحت المكيّفات، متنقلًا بين القنوات، متقنًا لغة الصراخ، فقيرًا في الفعل. الأول يصنع التاريخ، والثاني يعلّق عليه من الهامش.
الخلاصة: زمن الحقيقة.
التحرير لم يكن حدثًا عسكريًا فقط، بل زلزالًا أخلاقيًا أسقط هيبة زائفة، وفضح شعارات، وكشف نخبًا اعتاشت طويلًا على الوهم.
وليُقال بوضوح:
من لم يدفع ثمنًا، لا يملك حق الاتهام.
من عاش على القهر، لا يحق له وعظ الضحية.
من سقط أخلاقيًا، لا يحاكم من انتصر وطنيًا.
الجنوب اليوم حقيقة قائمة لا رأيًا عابرًا، وشرعيته تُكتب بدمائه لا ببيانات غيره.
أما تلك النخب… فمرحلة انكشفت، وأقنعة سقطت، وقصة انتهت.


