مفهوم الاعتداء في القرآن الكريم: حين يُمنع الخير
بقلم: منصور بلعيدي
عندما نسمع عبارة "اعتدى فلان على فلان"، يتبادر إلى أذهاننا فورًا مشهد عنف جسدي أو لفظي، حيث يعتدي شخص على آخر بالضرب أو الإهانة. لكن القرآن الكريم يقدّم *مفهومًا أوسع وأعمق للاعتداء* ، يتجاوز الأفعال الظاهرة إلى النوايا والمواقف الخفية التي قد لا ننتبه إليها، لكنها في ميزان الله تُعد من صور الظلم والعدوان.
في أكثر من موضع، يصف الله تعالى المعتدين بأنهم ليسوا فقط من يظلمون الآخرين علنًا، بل أيضًا من *يمنعون الخير عن الناس*. يقول الله تعالى:
*"مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ"* _(القلم: 12)_
*"مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ"* _(ق: 25)_
فما معنى أن يكون الإنسان معتديًا لأنه منع خيرًا عن غيره؟
لننظر في بعض الأمثلة الواقعية.
تخيل أن يقترح أحدهم مساعدة شخص يمر بضائقة مالية، فترد بلا مبالاة: "لا داعي، هو قادر على تدبير أموره". قد تبدو جملة عادية، لكنها في حقيقتها *منعٌ للخير* ، وصدٌّ عن معروف كان يمكن أن يُفرّج كربة أخيك.
أو أن يُسألك أحدهم عن زميل في العمل، وأنت تعلم أن السؤال يتعلق بترقية أو مكافأة، فتقول: "عمله جيد، لكن لديه بعض القصور"، ثم تُسهب في النقد وتتجاهل فضائله. هنا، أنت لم تعتدِ عليه بيد أو لسان، بل *بكلمة ظاهرها النصح وباطنها الحسد*.
بل قد يُذكر شخص في مجلس بالخير، فيُثني الناس عليه، فتشعر بالغيرة وتقول: "لو عرفتم ما أعلم لما مدحتموه". بهذه العبارة، *منعت عنه الذكر الطيب* ، وحرمت قلبه من فرحة التقدير، وهذا في ميزان القرآن *اعتداء*.
هي كلمات عابرة... لكنها موجعة.
الاعتداء بمنع الخير لا يقتصر على الأفراد، بل قد يتجلى في سلوك الدول والمؤسسات. فحين تحارب دولةٌ ما كل مشروع نافع، أو يُحارب تاجرٌ صغار التجار خوفًا من منافستهم، أو تُحتكر الأسواق وتُكسر الأسعار لإفشال المبادرات، فإن ذلك كله *منعٌ للخير وعدوانٌ على المجتمع*.
السؤال الجوهري: *ما الذي يدفع الإنسان ليمنع الخير عن غيره؟*
الجواب يكمن في *سوء الظن بالله* ، حيث يظن البعض أن الفضل بيدهم، وأن أرزاق الناس مرهونة بإرادتهم. ينسون أن الله هو *الرازق المقسِّم* ، يعطي بحكمة ويمنع بحكمة، كما قال تعالى:
*"نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِ..."* _(الزخرف: 32)_
كما أن هناك *خللًا في الولاء الإيماني* ، فالمؤمن مأمور بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكون وليًا لأخيه في الخير، لا خصمًا له فيه. قال تعالى:
*"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"* _(التوبة: 71)_
وللتخلص من هذا المرض الخفي، علينا أن نؤمن يقينًا بأن *الفضل بيد الله* ، وأن ما قدّره لغيرنا لا يمكننا منعه، وأن اعتراضنا عليه لا يغيّر شيئًا في القدر، بل يُفسد قلوبنا. قال تعالى:
*"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ..."* _(آل عمران: 26)_
وقال: *"قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"* _(آل عمران: 73)_
علينا أن نُدرك أن *نجاح الآخرين لا ينتقص من نجاحنا* ، وأن الخير إذا عمّ، نلنا منه نصيبنا ولو لم نقصده. فالمؤمن الحق هو من *يحب لأخيه ما يحب لنفسه* ، ويكون *فاعلًا للخير لا مانعًا له*.


