البيئة تصنع الإنسان، والإنسان يصنع الحضارة
ليس الإنسان كائنًا معلقا في الفراغ، ولا صفحة بيضاء تُكتب خارج سياقها؛ بل هو ابن بيئته، ينشأ على ما يراه، ويألف ما يسمعه، وتتشكل أخلاقه من مجموع المؤثرات التي تحيط به.
والبيئة ليست جدرانا ولا شوارع؛ بل منظومة قيم، وأصوات متكررة، ونماذج بشرية، وسلوكيات تتسلل إلى النفس بهدوء، حتى تتحول مع الزمن إلى هوية راسخة وطبع مستقر.
ولم يأتِ الإسلام ليُنكر هذه الحقيقة؛ بل جاء ليهذّب البيئة ويوجّهها، وينقل الإنسان من محيطٍ ملوّث بالقيم الفاسدة إلى فضاء نقي يُنبت الإيمان والرحمة. فالقرآن لا يتحدث عن الأفراد معزولين؛ بل عن “القرى” بوصفها بيئات كاملة، صلاحها؛ صلاح لأهلها، وفسادها؛ فساد عليهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾.
وهذه الحقيقة الاجتماعية العميقة قررها قبل قرون ابن خلدون حين قال كلمته الشهيرة: "العمران يصنع الأخلاق"؛ فطريقة العيش، وشكل الاجتماع، ونمط العلاقات، هي التي تُنتج السلوك، ولا يمكن فصل الإنسان عن محيطه مهما ادّعى الاستقلال.
يرى ابن خلدون أن الإنسان “مدنيٌّ بالطبع”؛ أي لا تقوم حياته؛ إلا بالاجتماع، ولا تكتمل شخصيته؛ إلا بالتفاعل. فهو يتأثر قبل أن يُؤثِّر، ويتشكل قبل أن يختار؛ فالبيئة الطبيعية تترك بصمتها في الطباع؛ لكن البيئة الاجتماعية هي الأعمق أثرا؛ لغة، عادات، أدوار، نماذج، وقيم تُلقَّن دون خطب ولا دروس.
وهذا ما تؤكده علوم الاجتماع الحديثة؛ فالهوية لا تولد جاهزة؛ بل تُبنى عبر التفاعل المستمر مع الأسرة، والمدرسة، والحيّ، والرفقة. وقد لخّص النبي ﷺ هذه القاعدة الخالدة بقوله: «المرء على دين خليله»؛ فالصحبة ليست تفصيلا عابرا؛ بل بيئة متنقلة.
حين تأمل ابن خلدون في المجتمعات، فرّق بعمق بين أثر البادية وأثر الحاضرة؛ فالبيئة القاسية في البادية أنجبت صفاتٍ مثل الصبر، والشجاعة، والصدق، والبساطة، وقلة التكلف. لم تأتِ هذه القيم من فراغ؛ بل من شظف العيش، وضيق الموارد، واعتماد الناس على بعضهم في مواجهة الخطر. هناك يتعلّم الطفل الاعتماد على نفسه، ويرى الشجاعة ممارسة قبل أن يسمعها حكاية.
ومن هنا قال ابن خلدون: "العصبية أساس الملك" ، أي أن التماسك الاجتماعي والوقوف مع القريب يصنع قوة الجماعة، ويمنحها القدرة على الصمود.
في المقابل، تتشكّل شخصية ابن المدينة في بيئة مزدحمة بالحياة، متشابكة العلاقات، عامرة بالقانون والنظام؛ فالمدينة تُعلّم اللين، والتهذيب، وإدارة الخلاف، واحترام الدور. وتُنمّي مهارات التفاوض، والتعايش، والتعامل مع التنوع. وقد عبّر ابن خلدون عن ذلك بقوله: "أهل الحاضرة يكثر فيهم الترف والدعة".
ومع وجود الدولة والقانون، تنتقل الحماية من العصبية إلى النظام، فيتحول الولاء من رابطة الدم إلى رابطة المواطنة. وهنا تنمو القيم المدنية، ويضعف الاندفاع، ويقوى التنظيم. غير أن هذا التحضر، إن لم يُضبط بالإيمان، قد ينزلق إلى ترفٍ مفسد، كما حذّر القرآن من مجتمعات أغرقتها الرفاهية حتى فسدت.
كثير من الصدامات في واقعنا ليست صدام قيم؛ بل صدام تنشئة؛ ابن القبيلة يستمد قوته من الجماعة، وابن المدينة يستمدها من النظام. الأول سريع الحسم، شديد الولاء، والثاني أوسع أفقا، أدق تنظيما. أهل البادية يمتازون بالثبات والوفاء، وأهل المدن بالمرونة والإدارة.
ولا فضل لبيئة على أخرى بإطلاق؛ فالحكمة في التكامل لا في التنازع. وقد قامت الحضارات الكبرى حين امتزجت صلابة البادية بتنظيم الحاضرة؛ فلا حضارة بلا قوة، ولا قوة بلا نظام؛ ولهذا قرر ابن خلدون قاعدته التاريخية: "تبدأ الدولة من البادية، فإذا استقرّت انتقلت إلى الحاضرة".
البيئة ليست أرضا نعيش فوقها؛ بل قيما نعيش بها؛ ففي القبيلة تنشأ النخوة والكرم والنجدة، وفي المدينة ينشأ النظام والتعايش.؛ لكن أي بيئة إذا فسدت؛ أفسدت أهلها؛ فالإنسان مرآة محيطه.
واليوم لم تعد البيئة محصورة في البيت والحي؛ بل اقتحمتها الشاشات، والمنصات، والإعلام، حتى صار “الخليل” أحيانا شخصا مجهولا يصوغ الأفكار ويهندس السلوك. ومع ضعف المجالس الأسرية، واتساع الفردية؛ بردت العلاقات، وفقدت النفوس دفأها.
ولم يأتِ الإسلام ليهدم القبيلة، ولا ليذيب المدينة؛ بل ليضبط القيم ويوجّهها؛ فالعصبية إن صلحت؛ صارت تكافلا، وإن فسدت؛ صارت ظلما؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن العصبية الجاهلية، وأبقى روح النصرة والعدل. وفي المدينة، عزّز الإسلام قيم النظام والعدل دون أن يسمح بذوبان الهوية. وقد لخّص عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا التوازن بقوله: "أعرِبوا عن أنفسكم ولا تكونوا أعرابا"؛ أي خذوا قوة البادية وتهذيب المدينة معا.
ورسول الله ﷺ كان النموذج الأكمل: نشأ في قبيلةٍ قوية، وعاش في مدينة عامرة، وجاءه الوحي فهذّب الصلابة، وأنار التحضّر، فصار مثال القوة والرحمة معا.
إذا كانت البيئة تصنع الإنسان؛ فإن الإنسان قادر أيضا على أن يصنع بيئته.
ويبدأ ذلك من الأسرة، فهي أقوى البيئات وأعمقها أثرا. ثم بنشر القيم المشتركة التي تجمع ولا تفرّق، وتعزيز العمل الجماعي، وحماية الشباب من بيئات الانحراف ببدائل صالحة، ودعم المبادرات التي توحّد المجتمع لا التي تمزّقه؛ فالبيئة الصالحة لا تُولد صدفة، بل تُبنى وعيا، وتُحفظ مسؤولية، وتُغذّى قيما.
وخلاصة القول: لسنا أسرى بيئاتنا، ولا منفصلين عنها. نحن نتشكّل بها، ونُعيد تشكيلها.زوحين يلتقي الإيمان بالبيئة الصالحة؛ تولد الشخصية المتوازنة، ويقوم العمران، وتنهض الأمم.
نسأل الله ان يجعل بيئتنا عونا لنا على العمران والنماء، ودمتم سالمين!


