من أرشيف الذاكرة 4
وبعد أن عادت اللجان إلى عاصمة المحافظة ، وعدت أنا إلى مزاولة عملي أيضا في العاصمة ، طلب مني أحد الزملاء أن أذهب معه إلى مكتب التربية والتعليم ؛ لإقناع المسؤلين هناك بحل مشكلته التي لاتختلف عن مشكلتي في شيء ؛ إذ رفعت المدرسة به ضمن المنتدبين وغيره وضعت لهم برامج وحصص مع أنهم منتدبون مثله ، أثبتنا للإدارة بالأدلة والبراهين ازدواجية المعايير ، والكيل بمكيالين ، الأمر الذي جعلهم ينصفون ذلك المعلم .
في هذه الأثناء ، وقبل أن ننصرف عن مكتب التربية ، نظر إلي ذلك المعلم ، ثم قال : هل أنت متأكد من أن أمورك طيبة ، وأن اسمك قد رفع ضمن المستفيدين من قانون المعلم ؟ قلت : أجل ، وأظنك كنت معي ليلة المنازعة التي حصلت بيني وبين اللجنة ، ثم الاتفاق على أن يتم الرفع بكل المعلمين ، وبعد ذلك طلبت اللجنة من المدير أن يملأ استمارتي ببرنامج تدريسي ثم يقوم بالتوقيع والتختيم على ذلك ، قال : أجل ، ولكن لماذا لاتتأكد من أن بياناتك سليمة من الإدارة هنا بمكتب التربية ؟ قلت : يبدو أنك يازميلي لاتعرف علاقتي بالمدير ؟ قال : بلى ، أعرف ذلك جيدا ، وأعرف أنه ليس له صلة بأرباب القمصان الخضر ، لاسيما بعد أن حاولوا إزاحته من إدارة المدرسة ، وأنت من انتصر له وأعاده ، ولكن أولئك لايؤمن جانبهم ياصديقي ، قلت : لكن هل تتوقع أن اللجنة تستطيع أن تغير شيئا في الاستمارة بعد أن وقع عليها المدير وختم ، قال : كلا ياصديقي ، غير أننا بعد أن وجدنا هنا ما الذي سيضيرنا إذا ماتأكدنا من صحة بياناتك ؟ قلت : سأفعل ذلك نزولا عند رغبتك وحسب ، فتح المختص سجلا ضخما ، وذهب يتتبع حرف العين حتى وصل إلى اسمي ، وإذا بالمستطيل الذي احتوى اسمي ، قد أفرغ من أي بيانات غير الكلمات : مفرغ من العمل في المدرسة ؛ لأنه يعمل في مرفق آخر .
عند ذلك استوعبت الصدمة ، ولم أبد أي غضب أو تذمر ، فقط سألت المختص ، من الذي ملأ هذا السجل ؟ قال : نحن نملأه من استمارات المعلمين التي يملأها مدير المدرسة ويوقع عليها ويختم ، قلت : أرني إذا تكرمت استمارة المدرسة الفلانية ؟ قال : هاك إياها ، نظرت إليها ، وإذا بها تحمل اسمي ، وتلك الجملة المدونة في السجل ، وعليها توقيع المدير وختمه ، وهنا صرخت بكل ثقة قائلا : هناك من استبدل استمارتي باستمارة مزورة ، وزور توقيع المدير وختمه ، قال المختص : اهدأ يا أخي ، وسوف نبعث برقية لاسلكية عبر مركز الشرطة في بلدتكم بحضور المدير صباح غد ، وعند ذلك سنعلم كل شيء .
في اليوم التالي حضر المدير ، اصطحبته بكل ود نحو المختص ، ودرجة الثقة عندي ببراءة المدير مائة في المائة ، إن لم تكن أكثر ، أخرج المختص الاستمارة ، ثم سأل المدير ، هل هذا توقيعك ؟ قال : أجل ، لكن بصوت خافت لم يكد يبلغ مسامعي ، أردف المختص بالسؤال ، وهل هذا ختمك ؟ وهنا حاول أن يجيب بهز رأسه بهدوء إذ لم تسعفه لسانه بالنطق ، وفي هذا الموقف كدت أن أفارق الحياة لهول هذا الفعل الخياني غير المسوغ ، إلا أن الخيانة قد أضحت سلوكا يجري في دمه ، وفي هذه اللحظات المميتة ، تذكرت قول قائد شرطة البلدة : " سوف تكتوي بنار خيانته ذات يوم " حدقت بنظري مليا نحو عينيه ، لكنه ظل ناكسا رأسه ينظر إلى قدميه ، انصرفت عنه ، وقدماي تعجز عن حملي ، بل أكاد أسقط في أي لحظة ، فضلا عن عيني اللتين لم يعودا يبصران الطريق ، أما خيالي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ؛ إذ رحل يفتش في الذاكرة ، ليذكرني كيف كنت أرسل ابني بمركبتي ليأتي به يشاركني طعام الغداء إذا ماكانت الوجبة طيبة ، أو طعام العشاء إذا ماكانت المائدة دسمة ... بئس الخيانة والخائن ، إنهما أسوأ ماقد يسلكه الإنسان في هذه الدنيا .