ظاهرة إنتهاك حرمة الشهر الفضيل .. "خالف تعرف"

لم تكن ظاهرة التبجح بالإفطار في نهار رمضان من قبل بعض شباب المسلمين - ظاهرة شائعة في الأجيال السابقة ، ولم تتخذ هذا الشكل من الجرأة والوقاحة التي تتخذها و تبدو عليها اليوم - ذلك أن احترام الشهر الفضيل ، وتعظيمه ، وعلو قدره وشأنه لدى المجتمعات المسلمة - أدب رفيع ، وعرف سائد - فضلا عن حرمته وشرف مكانته الدينية كاركن من أركان الإسلام - دأبت و تربت عليه الأجيال ، منذ الصغر .. فقد كان الأطفال في ذلك الزمان - تخصص لهم مواقع تبعد قليلا عن منازلهم و يصنع لهم طعاما خاصا يتناولونه مع أذان المغرب في تلك المواضع - يسبقه أهازيج طفولية تستجدي المؤذن أن يصدح بصوت الأذان ، ويسمعها قول الله أكبر - لكي تشرع في تناول طعامها - مع أن أولئك الأطفال ليس صائمين وبإمكانهم أن يأكلوا ويشربوا قبل الأذان ، ولكن ما ذلك إلا ليعتادوا ، و يتدربوا على كبح جماح شهوة الطعام لديهم ، وينتظروا حتى يحين موعد الأذان ، و نوعا كذلك من الإلهاء حتى يتسنى لأهاليهم في البيوت أن يحضوا بلحظة إفطار هانئة ، يناجوا فيها ربهم ، ويتناولوا فيها إفطارهم بعيدا عن صخب وضجيج وضوضاء أطفالهم .

هذه الأجيال منذ صغرها تم تلقينها أن من يفطر في نهار رمضان متعمدا يطلق عليه " كلب رمضان" وعند إقتراب عيد الفطر يتلقون دعابة و مزحة مفادها - أن يوم العيد سيتم حبس كل من أفطر في نهار رمضان متعمدا .. لأن فرحة العيد هي مكافأة خاصة بالصائمين .. فيشعر الأطفال بنوع من الحسرة البريئة على تفريطهم .

إندثرت وتلاشت وانقرضت هذه الآداب وهذه التعاليم والمفاهيم والأخلاق و التقاليد الرمضانية ، واندثر معها مهابة وتعظيم واحترام وتقدير الشهر الفضيل في نفوس بعض من الشباب الطائش من الأجيال الحالية ، وظهرت فئات من الشباب تتعمد الأكل والشرب والتدخين - جهارا نهار - في نهار رمضان ، وربما خالط ذلك بعض السب والشتم والإستهزاء بشعيرة الصيام والصائمين - في انتهاك صارخ لحرمة الشهر الفضيل ، وإظهار شي من عدم الإكتراث والإهتمام بالمزاج العام والأجواء الروحانية التي يضفيها الشهر الكريم على الزمان والمكان والمجتمع . 

يرى البعض أن هذه الظاهرة الشاذة والسلوك المنحرف هو عبارة عن إضطراب نفسي - ربما ترقى إلى تصنيفها كحالة مرضية - تتمثل في شعور خفي بالنقص لدى هذه الفئة من الشباب - نتيجة فشل وإخفاق ما في مرحلة مبكرة من مراحل الحياة ، إضافة إلى الفراغ الروحي ، وعدم إشغال الطاقة بما يعود بالنفع والفائدة - كل ذلك ينعكس سلبا ، و يتولد عنه شعور بالحاجة إلى حب الظهور والشهرة لإكمال ذلك النقص والفراغ الذي يمليه عليهم الوهم ، أو بالأصح الشيطان - حتى وإن كان ذلك على حساب الدين والقيم والمبادئ على قاعدة "خالف تعرف" بدليل أن الدافع الحقيقي وراء هذه الظاهرة الشاذة ، والسلوك المنحرف - ليس الحاجة للطعام والشراب ، أو عدم قدرتهم على الصيام .. بقدر ماهو نوع من أنواع تلبية نوازع داخلية نفسية شاذة تحاول إبراز نفسها من خلال المخالفة والمعاكسة .

ولهذا الرأي ما يسنده من كتب السلف - فقد أورد إبن الجوزي قصة إعربيا في الحج تعمد أن يتبول في بئر زمزم أمام أعين الناس .. فانهال عليه الحجاج ضربا وكادوا يقتلونه لولا تدخل حراس الحرم وانقاذه من بين أيديهم ، وعندما سأله الوالي ، أو أمير مكة - عن دوافع فعلته .. قال أردت أن يتحدث الناس بأني صنعت شيئا لم يصنعه أحد أو كما قال .

وما يرجح ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي - هو أن ظاهرة الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالى سواء قديما أو حديثا ، وسواء في المجتمعات الغربية أو مجتمعاتنا - دوافعها أيضا هو - طلب الشهرة وحب الظهور - كما يرى كثير من المهتمين .. واستدلوا أصحاب هذا الرأي بأن هذه الظاهرة محصورة في أفرادا وفئات محدودة جدا ، و نادرة ومنبوذة في مجتمعاتها - كون البشرية جمعا تؤمن بأن الله هو خالق هذا الكون وهو مدبر شؤونه - ذلك أن الإقرار بوجود الله سبحانه أمر غريزي فطري كما نص على ذلك القرءان والسنة النبوية فمن القرءان { أفي الله شك فاطر السموات والأرض } ١٠ إبراهيم ، وقوله سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا .... } ١٧٢ الأعراف ، ومن السنة الحديث المشهور " كل مولود يولد على الفطرة ... " البخاري . فوجود الله سبحانه وتعالى - أمر محسوم أودعه الله سبحانة في حس الإنسان و فطرته وغريزته - ففيما إذن الإلحاد ، و التبجح بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى - إن لم يكن إلا بهدف حب الظهور و التفرد والتميز والمخالفة .

ولذلك القرآن الكريم لم تكن قضتية أصلا إثبات وجود الله - وإنما القرآن الكريم قضيته الكبرى هو إفراد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة ، و نفي الشرك والتحذير منه .

ولهذا تؤكد هذه الظواهر الشاذة وهذا النوع من السلوك المنحرف - أن محاولة هذه الفئة من الشباب مخالفة ماعليه مجتمعاتها من إلتزام ، وإمتثال للثوابت والمسلمات الدينية - ما هو إلا نوع من أنواع حب الظهور و التميز وطلب الشهرة .

فهل يكمن الحل ، والعلاج الأمثل لهذه الظواهر الشاذة والسلوك المنحرف بالإعرض عنها ، و أن يتم التعامل مع هؤلاء الشباب الطائش بتجاهل شأنهم وعدم تضخيم فعلهم وعدم إعطاءهم أي قيمة - فلا يتداول فعلهم المشين هذا مثلا في المجالس وفي الشوارع ، وتجنب إحداث هالة من الضجة حولهم - كون ذلك ربما يلبي رغبتهم وسلوكهم الشاذ في ذياع صيتهم وشهرتهم .. هل هذا النوع من المعالجة قد ينفع ويأتي بنتائج إيجابية ؟ 

أم أن الأمر يتطلب العكس تماما - يتطلب مواجهة هذه الظاهرة من قبل كل فئات المجتمع والتعامل معها بنوع من الحزم و الصرامة خصوصا من قبل أسر وأهالي هؤلاء الشباب - كونهم يغتر بهم آخرين من صغار السن والمراهقين .. كنوع من المحاكاة والتقليد لهم ، و أما النصح والإرشاد والموعظة الحسنة لهم من قبل الخطباء والدعاة والمصلحين ، ومن كل الخيرين .. فإن ذلك ضرورة دينية .. ربما تكون لها نتائج إيجابية حتى في أقل الأحوال على المستوى الفردي .

نسأل الله أن يجعل الشهر الفضيل شهر هداية لجميع شباب المسلمين وشهر خير وبركة ونصر وتمكين .

و شهر مبارك على الجميع ، وكل عام وجميع أمتنا الإسلامية بخير .