القرد في عين أمه غزال: صحيح ولكن ليس على إطلاقه
من الموروثات الشعبية التي توارثها الناس جيلا بعد جيل، ذلك المثل الشهير: "القرد في عين أمه غزال". ورغم بساطته الظاهرة، إلا أنه يعكس إشكالية نفسية وتربوية واجتماعية عميقة تستحق التوقف والتحليل، بعيدا عن الابتسامة الساخرة التي يثيرها المثل!
في المعنى الظاهري، يُفهم هذا المثل على أنه تعبير عن محبة الأم العميقة لطفلها؛ إذ تراه الأجمل في عينيها مهما كانت ملامحه بعيدة عن معايير الجمال. لكن لو دققنا في سياق استخدامه المجتمعي؛ لوجدنا أنه يتعدى الشكل الظاهري إلى نظرة الأم -أو حتى الأب- إلى سلوكيات أبنائهم، إذ يرونها مثالية ووديعة وحسنة حتى وإن كانت سيئة، ويبررونها حتى وإن كانت مرفوضة.
وهنا تتجلى المشكلة الكبرى: حين يتحول الحب الأبوي إلى غشاوة تعمي عن رؤية العيوب؛ فيصبح دور الوالدين التربوي مشجعا غير واعٍ للخطأ.
ليس كل من يرى ابنه "غزالا" يخطئ، فالحب الفطري للأبناء أمر طبيعي؛ بل محمود في أصله؛ لكن الكارثة تحدث حين يترافق هذا الحب مع الجهل، والتكبر، أو النقص النفسي، فيُصبح الأب أو الأم غير قادرين على ممارسة التربية بمعناها الحقيقي: التهذيب، التقويم، والتوجيه.
نجد في بعض الأسر أبا متعجرفا يرى أن ابنه "لا يُخطئ"، وإن أساء إلى الآخرين، يبرر ذلك بالذكاء أو الرجولة أو الجرأة. وأما ترى أن بنتها "أجمل من كل البنات" حتى وإن كانت تتصرف بأنانية أو تكبر، وتلجأ إلى تبرير تصرفاتها بأنها "مدللة ومميزة"، فتُغذى عندها النرجسية وتتضخم "الأنا"، ما يجعلها مرفوضة اجتماعيا، عاجزة عن بناء علاقات صحية متوازنة.
في المقابل، الشخص الواعي السوي نفسيا واجتماعيا ودينيا، يدرك أن الحب لا يعني القبول المطلق، وأن التربية لا تنجح دون ضبط وتوجيه. فالحب الحقيقي للأبناء لا يُترجم بتقديسهم؛ بل بتنشئتهم ليكونوا مقبولين محبوبين فاعلين في المجتمع.
وكما قال الإمام الشافعي: "من لم يؤدبه والداه أدبه الزمان"، والزمن لا يرحم؛ بل قد يعاقب الأب قبل الابن.
إن التربية القائمة على الحب المتزن؛ لا الأعمى، تُنتج أبناءً أسوياء، يقبلون النقد، ويحترمون الضوابط، ويكبرون بثقة دون غرور، وبكفاءة دون استعلاء.
وفي ضوء هذا، نطرح تساؤلا إعلاميا تربويا صريحا: هل نربي أبناءنا ليكونوا محبوبين في أعيننا فقط، أم ليكونوا صالحين مقبولين في أعين المجتمع أيضا؟
الجواب مسؤوليتنا نحن، كآباء وأمهات، كمعلمين ومربين، وكأصحاب منابر إعلامية وثقافية.
فلا تُربّ ابنك كـ"غزال في عينيك" فحسب، بل اجعله إنسانا جميلا في أعين الجميع.
والله الموفق!
ودمتم سالمين!