وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ

بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي 
 
تابعت  - كغيري -  ما تم تداوله في مواقع  وسائل التواصل الاجتماعي  عن حادثة الإعدام بحق أحد الجناة في محافظة لحج والذي حُكِم عليه رمياً بالرصاص حتى الموت .

والحقيقية أنَّ تلك اللحظات كانت مؤثرة جداً ،هزت أركان ساحة التنفيذ هزاً ، وألهبت مشاعر الحاضرين ، وآلمت نفوسهم ، وأدمت قلوبهم ...
 حاول خلالها الحاضرون أن يثنوا أولياء الدم عن تنفيذ حكم القصاص ، والجنوح للعفو ، والقبول بالدية ...إلا أنهم لم يصغوا إلى كل تلك التوسلات ، ولم يقبلوا كل تلك النداءات ، وأصروا على تنفيذ الحكم .

 ولكن المنظر الأشد تأثيراً ...كان منظر الجاني وقد جيء به إلى ساحة الموت ، يرقب بعينيه تلك
اللحظات الأخيرة للحياة ، وينظر إلى ملك الموت وقد تحفَّز لقبض روحه ، وتوفَّز لإنهاء حياته ، وهو في حالة ندم ، واستسلام ، وذل ، وهوان ، ورعب ، وخوف ، وعجز ، وخور .

ثم في لحظات غاية في الصعوبة يرمي بنفسه على 
فراش الموت ويداه  مربوطتان إلى ظهره وقد
 وضع وجهه إلى الأرض ينتظر الطبيب الشرعي كي يضع العلامة  لتنفيذ الرمي .

فيالها من لحظات قاسية ، مفزعة ، مخيفة ، أليمة ، عسيرة على النفس .

كل ذلك الشقاء ، وكل ذلك البلاء ، وكل تلك الآلام التي يتجرعها في تلك الساعة .... 
كان سببها نزوة نفس ، وحمية جاهلية ، وتصرف أحمق ، وطيش ، وسفه ، وسخف ، وغباء ...
أعمى بصره ، وبصيرته  ، وفي فورة غضب أقدم على إزهاق روح بغير ذنب وسفك  دماء بغير حق ، وتعدى على 
مسلم بغير سلطان ..
لذلك كان الجزاء في حقه وفاقا .

ومع ذلك ورغم تلك المشاعر العاطفية التي تنتاب كل ذي قلب وهو يرقب تلك اللحظات العسيرة للجاني ، وهو يجر ذليلاً إلى ساحة الموت ....
إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى قال عن القصاص أنه حياة .

 { ولكم في القصاص حياة } 
 والمراد من الحياة في القصاص  تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء .

 فالانسان الذي  يوقن أنه سيدفع حياته ثمناً لحياة من يقتله..... لجدير به أن يتروى ويفكر ويتردد ألف مرة ، ومرة قبل أن يقدم على سفك دم إنسان بغير حق .

وهنا يتحقق مقصود( الحياة ) في الآية الكريمة. 
فإذا كف الجاني عن ارتكاب جريمة القتل إبتداءً....
ففي ذلك ضمان لحياته ، وضمان لحياة غيره .

 كما تنبثق الحياة من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل .
فإذا اطمئن أولياء المقتول أنَّ القاتل سيأخذ جزاءه على فعلته الشنيعة ..
ستشفى صدورهم من الحقد ، وسيسلم الكل من لوثة  الثأر الخبيثة .

 الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس ،  وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم حيث  تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلاً بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل .
وذلك نتيجة عدم تنفيذ حكم القصاص الشرعي .

هذا هو حكم الحكيم سبحانه ، الحكم العدل .
وهذا هو سر تشديد الشرع على ضرورة تنفيذ القصاص بكل أشكاله ..قال تعالى:
{وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }
 
وهكذا يتبين أنَّ القصاص  ليس انتقاماً ، وليس إرواءً للأحقاد.....وإنما هو أجل من ذلك وأعلى ....
 إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة .
ثم إنَّه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله...
 وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : ( لعلكم تتقون ) 

هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء ...
 الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً ..
التقوى ... حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله ؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه . 
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان ! 
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي [ ص ] وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختارا .

 لقد كانت هنالك التقوى.... كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود .... إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . 
 وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور  ،نظيف الحركة نظيف السلوك ، لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير !