عدن بحاجة إلى وقفة شجاعة من الواقفين في الظل والمنطقة الرمادية
في زمن أصبحت فيه الأزمات عنوانًا يوميًّا لحياة الناس، تتعمق جراح عدن كمدينة ومجتمع ومؤسسات، في ظل صراع عبثي على السلطة والمصالح، تشهده البلاد منذ سنوات، دون أن تلوح في الأفق بوادر انفراج حقيقي. فما تشهده عدن اليوم لا يمكن فصله عن السياق العام الذي عاشه الجنوب منذ ما قبل الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، حيث غابت الرؤية الوطنية، وتراكمت الأزمات دون وجود عقد اجتماعي جامع، أو إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء الدولة على أسس عادلة وواضحة.
لقد امتلك الناس، خلال السنوات الأخيرة، كثيرًا من الإمكانيات المادية والمعرفية التي كان من الممكن أن تُستثمر في تحقيق نقلة نوعية في التنمية وبناء المؤسسات، إلا أن غياب الإدارة الرشيدة والانشغال بالصراعات الهامشية والمناطقية حال دون ذلك. الأسوأ من كل ذلك أن الفوضى لم تكن نتاج تراكم داخلي فحسب، بل نُقلت عمدًا من خارج المدينة إلى داخلها، وبتواطؤ قوى الاستقلال والتحرير التي كانت تحمل خطاب الحراك السلمي ، لكنها سرعان ما انشغلت بتكريس واقع الهيمنة ونهب الموارد، متجاهلة أولويات الناس وحقوقهم الأساسية.
لم تكن عدن بحاجة إلى من يجرّ إليها صراعات القرى وأحقاد المناطقية، بل كانت تنتظر أن تتحول إلى نموذج للاستقرار والانفتاح والنمو. لكن ما حدث هو العكس تمامًا؛ فقد أصبحت المدينة مرتعًا للفوضى الأمنية والإدارية، وحلبة لتصفية الحسابات السياسية والشخصية في الحراك والمقاومة والزمرة والطغمة ، في غياب تام لمشروع وطني جامع يضع مصلحة المواطن فوق المصالح الفئوية والجهوية.
لقد أُهدر الكثير من الوقت والفرص. ثلاثون عامًا من التيه، أُضيفت إليها سبع سنوات من العبث، في لحظة كان من المفترض أن ننتقل فيها إلى طور جديد من الوعي الوطني، والمصالحة، وبناء دولة القانون والمؤسسات. غير أن النخب السياسية، بدلاً من أن تتوجه نحو الحوار الوطني والتفاهم المجتمعي، ظلت أسيرة ماضيها ومصالحها الضيقة، متشبثة بالنهب والفساد والفوضى دون مشروع حقيقي يجمع على أساس المصلحة العامة والخاصة .
إن ما يجري اليوم هو نتيجة مباشرة لهذا الإخفاق المركب: إخفاق في الإدارة، في الرؤية، في الأخلاق السياسية، بل وفي فهم أبجديات الدولة الحديثة. والأخطر من ذلك هو شيطنة كل صوت يدعو إلى الإصلاح، المنظومة السياسة ورفض كل محاولة تطالب بتطبيق القانون، وكأن احترام القانون أصبح تهمة في عرف القرويين .
عدن اليوم تنهار: تنهار إداريًا، أخلاقيًا، ثقافيًا، وتنهار معها فكرة الدولة. وهذا الانهيار لا يمسّ سكان عدن وحدهم، بل يهدد مستقبل الجنوب عمومًا، ما لم يتم تدارك الأمر بإرادة جادة، وقراءة نقدية للتجربة، وتجاوز العقلية الانتقامية التي لا تنتج إلا الخراب.
لقد آن الأوان لاستعادة الحديث عن “الوطن” لا “الغنيمة”، وعن “الدولة” لا “السلطة”، وعن “التنمية” لا “النهب”، وعن “الحوار” لا “الإقصاء”. آن الأوان للتأسيس عقد اجتماعي جديد قائم على قيم المواطنة، العدالة، والكرامة، ويشارك فيه الجميع في ابين وشبوه وحضرموت دون تمييز أو إقصاء.
إن عدن تستحق منكم التنازل عن طموحتاكم القروية، عد ن بحاجه الى وقفه شجاعة من الواقفين في الظل والمنطقة الرمادية.