وردة أمي… وصوت لا يشيخ
ما زلتُ أذكر جيدًا كيف تعلو ملامح أمي بالسكينة كلما انساب صوت وردة الجزائرية من المذياع أو من أحد أشرطتها القديمة.
كأن شيئًا ما في أعماقها يستيقظ، وكأنها تُمسك بأطراف زمنٍ تحبه… وتخشى أن يفلت منها.
كانت تقول لي دائمًا: "وردة ليست مجرد مطربة، بل زمنٌ بأكمله، زمن صدقنا فيه الحب، وآمنا بالأغنية كصوتٍ للقلب، لا كإيقاعٍ عابر.
كنت أستمع إليها بشغف، ليس فقط لما تقوله، بل للطريقة التي تتحدث بها، وللحب الذي يتسرّب من صوتها حين تذكر اسم وردة.
كبرتُ، وبدأتُ أُصغي إلى وردة بعينٍ جديدة… لا بعين الفتاة الصغيرة التي تتساءل عن سرّ هذا الإعجاب، بل بعين المرأة التي بدأت تفهم كيف للأغنية أن تختصر عمراً، وكيف لصوت أن يُربّي ذوقاً، ويهذّب شعوراً، ويعلّمنا أن نحب برقي.
وردة، كما تراها أمي، كانت سيدة الصوت والموقف.
غنّت للنساء كما لم يغنِّ أحد، بصوتٍ يحمل دفء العاطفة، وقوة الكبرياء.
غنّت للحبّ من موضع القوة لا الضعف، من موضع الوفاء لا التوسّل، ومن موضع الأنثى التي تعرف تمامًا من تكون.
أما بالنسبة لي، فقد أصبحت أغاني وردة رابطًا سريًّا بيني وبين أمي.
في كل مرة أستمع فيها إلى "خليك هنا" أو "العيون السود"، أشعر وكأنني أقترب منها أكثر، أفهمها أكثر، وأعيش جزءًا من شبابها الذي لم أكن شاهدة عليه.
صوت وردة في بيتنا ليس فقط موسيقى… بل طقس من طقوس المحبة، كل نغمة منه تحكي لي عن أمي، عن زمنها، عن أناقتها، عن بساطة الأيام التي كانت فيها الأغاني تُسمَع بالقلب لا بالهاتف.
ولعلّ أجمل ما في الأمر، أن أمي لا تزال هنا، تُخبرني بعيونها كيف يُمكن لصوتٍ جميل أن يخلّد لحظة، وكيف يمكن لأغنية أن تصبح جزءًا من الإنسان، لا مجرد لحن.
وردة، في بيتنا، ليست فقط مطربة أمي المفضّلة… بل ضيفة دائمة على ذاكرتنا، وجسر ممتدّ بين أجيالٍ يفصلها الزمن، ويجمعها الحنين.