الطب بين رسالة الرحمة وسوق الأرباح

في زحمة الممرات البيضاء ورنين الأجهزة الطبية، تُكتب على جدران المستشفيات كل يوم حكاياتُ أمانةٍ، أو خيانة، رحمةٍ أو تجارة. مهنةٌ كانت يوما عنوانَ النبل الإنساني، أضحت في بعض الزوايا تُمارَس كصفقةٍ تجارية تُقاس فيها نبضاتُ القلب بأرقام الفواتير، وتُوزن فيها الرحمةُ بميزان الأرباح.

من أعظم الأمانات التي حمّلها الله الإنسان أمانة الأرواح والأجساد، وأمانةُ المرضى الذين ألقَوا بأوجاعهم بين يدي الطبيب. فالطبّ ـ كما أراده الله ـ رسالةٌ قبل أن يكون تجارة، ورحمةٌ قبل أن يكون صناعة، وميثاقُ شرفٍ بين الطبيب وربّه قبل أن يكون عقدَ عملٍ بينه وبين المريض. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾. ويقول أيضا: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾. إنها آياتٌ تُذكّر كل طبيبٍ بأن يده ليست على جسد فحسب؛ بل على أمانةٍ ستُسأل عنها يومَ توضع الموازين.

ما أشد البلاء حين تُختزل المهنة الإنسانية في معادلات مالية؛ حين يُقاس المريض ببطاقة تأمينه، لا بآلامه، ويُقدَّر عمره بعدد الأيام التي يمكن أن تُضاف إلى فاتورته!
تحاليل تُفرض بلا ضرورة، وأدوية تُكتب لأجل عمولة، وإقامات تُمدَّد بلا مبرر، وأجهزةُ إنعاشٍ تُبقى على من مات سريريّا لا رحمة به؛ بل طمعا في الأجر الإضافي.
هذه ليست شطارة؛ بل خيانةٌ لأمانة أقسم الطبيب على صيانتها. خيانةٌ تُفسد النفسَ والمالَ معا، وتُسقط المهنة من علياء الرسالة إلى دركِ التجارة.

الطبيب مؤتمن على سر المريض وجسده وماله، فإذا خان؛ خان الله ورسوله. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾. وقال النبي ﷺ: «من غشّ فليس منا»؛ فكيف بطبيبٍ يُخفي عن مريضه الحقيقة، أو يصف له دواء لا يحتاجه؟ أليس ذلك غشّا مركبا؟
لقد كان أطباؤنا الأوائل مناراتٍ في الإخلاص والرحمة. قال الزهراوي رحمه الله: “على الطبيب أن يكون رحيما بالناس، ناصحا لهم، لا يبتغي بعلمه إلا وجه الله”. وقال الرازي لتلامذته: “عالجوا المريض بما ينفعه، لا بما يدرّ عليكم ربحا”. كانت قلوبهم قبل أدواتهم، وإخلاصهم قبل علمهم.

إن تحويل الطب إلى تجارةٍ يترك جراحا عميقة في جسد المجتمع:
- إهدار صحة الناس وأموالهم؛ حين يُؤذَى المريض بإجراءاتٍ غير ضرورية، فهو ظلمٌ صريح، وقد قال ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار».
- انهيار الثقة بين الطبيب والمريض؛ فإذا ضاعت الأمانة، ضاعت الطمأنينة.
- تشويه سمعة المهنة التي كانت مهبط الرحمة؛ حتى أصبحت موضعَ ريبةٍ عند بعض الناس.
- تفشّي الجشع في النفوس، حتى يُصبح المال هو المعيار، والرحمة عملة نادرة.
- مخالفة مقاصد الشريعة في حفظ النفس والمال، وهما من أعظم الضرورات الخمس.
أليست هذه ـ بحق ـ مأساة أخلاقية قبل أن تكون أزمة صحية؟

ومع هذا السواد، تبقى في الأمة شموع من أطباء ربانيين، جعلوا من مهنتهم عبادة ومن رحمتهم دعوة؛ منهم من يداوي الفقراء مجانا، يرفض العمولات والإكراميات، يبيت بجانب المرضى حتى يطمئن إلى استقرارهم. ومنهم من يرى في كل مريض بابا للجنة، لا زبونا في قائمة مالية. قال أحد الأطباء الميدانيين في مناطق الحرب: “أنا لا أرى أمامي مصابين؛ بل أرى نفسي أمام الله في كل لحظة”.
وهكذا يكون الطبيب المؤمن؛ يرى في كل نبضة من نبضات مريضه آية من آيات الله، وفي كل قطرةِ عرق من جبينه صدقة جارية في ميزان أعماله.

ليست الأمانة على الطبيب وحده؛ بل تمتد إلى المؤسسات والأنظمة الصحية أيضا؛ فعليها أن تراقب، وتمنع الرشاوى المقنّعة تحت اسم “النسب الطبية”، وتُنشئ لجانا أخلاقية مستقلة تُحاسِب المنحرفين، وتُكرّم الأمناء.
تقرير منظمة الصحة العالمية (2023) حذّر من أن غياب الرقابة الأخلاقية هو البوابة الكبرى لفساد المهن الطبية في العالم. فهل نغلقها قبل أن يتفشّى الداء في جسد المنظومة كلّها؟

القوانين وحدها لا تكفي؛ إن لم تُصاحِبها رقابةُ الضمير؛ فلا شيء يُوقظ الطبيبَ في منتصف الليل ليطمئن على مريضه سوى إيمانه بالله، ولا شيء يمنعه من خيانة الأمانة سوى خوفه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

لنُغرس في طلاب الطب معنى الرقابة لله، قبل أن نغرس فيهم مهارة التشخيص والعلاج، فإن الطب بلا ضميرٍ كالسيف في يد غادرٍ؛ يقطع، لكنه لا يرحم.

من يداوي جسدا مريضا بنيّة صادقة؛ يداوي في الوقت ذاته روحا إنسانيةً بأمر الله. ومن يسهر على راحة المريض ابتغاء وجه الله؛ فقد أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. قال ابن القيم رحمه الله: “إن الطبيب إذا أحسن النية وأراد بعمله وجه الله؛ نال أجر المجاهد في سبيل الله”. فلتكن هذه المهنة طريقا إلى الجنة، لا إلى جيوب الناس.

أيها الأطباء، يا حماة الأرواح! إن الله لا يسألكم كم جمعتم من مال؛ بل كم صُنتم من نفس؛ فمن باع ضميره ليشتري مالا؛ لم يشترِ إلا الخسران ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾. ولْيكن شعار الطبيب المؤمن: “اللهم اجعل عملي هذا في سبيلك، لا رياء ولا سمعة، ولا طمعا في مالٍ زائل”.
فالعلم بلا خُلق كالسيف في يد غادر،
يُقطّع الأجسادَ ولا يرحم الألمَا.
وأدام صحة الجميع وعافاهم في دينهم ودنياهم!