قراءة في خطاب الرئيس العليمي بمناسبة 14 أكتوبر

بقلم: مصطفى محمود

درسنا في علم السياسة، عند قراءتنا لخطابات الزعماء، أن نبدأ من فرضية بسيطة مفادها: أن الخطاب ليس بيانًا، بل "خريطة مصالح". وهذا بالضبط ما تضمّنه خطاب الرئيس العليمي عشية 14 أكتوبر 2025م.

لقد حمل خطابه أربعة أبعاد متوازية: الداخل اليمني، والتحالف العربي، والقوى الكبرى، والمحور الإيراني.. كل بُعد تلقّى رسائل دقيقة الصياغة، وكأن الرجل يدير أربعة حوارات في آنٍ واحد.

إلى الداخل، تحدّث بلغة التماسك والشرعية.

إلى التحالف العربي، بلغة الشراكة والالتزام.

إلى الغرب، بلغة المؤسسية والحوكمة.. أما إلى طهران، فبلغة القانون الدولي وردع الهيمنة عبر التجريم لا التصعيد.

حين عبّر الرئيس عن شكره للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لم يكن ذلك مجرد بروتوكول؛ بل تثبيت لمعادلة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، فالشراكة الحقيقية هي التي تجعل من الدعم المتبادل وسيلة لحماية الاستقرار الإقليمي.

قدّم الخطاب اليمن بوصفه شريكًا مسؤولًا، لا ساحة نفوذ، وهذه نقطة فاصلة في بناء الثقة الاستراتيجية بين العواصم الثلاث: الرياض، وأبوظبي، وعدن.

الحديث عن عودة صندوق النقد الدولي واستئناف المؤسسات المالية العالمية لأنشطتها في اليمن لم يكن تفصيلًا عابرًا؛ فمن وجهة نظري، كل إشارة إلى الاقتصاد هي في حقيقتها دعوة إلى الاعتراف السياسي.

العليمي، بذكاءٍ واقعي، استخدم لغة الأرقام ليقول للعالم: "ها نحن نعود إلى قواعد اللعبة الدولية"؛ إنها محاولة لاستعادة الدولة من خلال المؤسسات لا من خلال الشعارات، وهو ما يمنح الخطاب بُعدًا تنفيذيًا نادرًا في خطابات الدول المتأزّمة.

حين وصف الحوثيين بأنهم أداة لإيران، لم يذهب إلى التحريض بل إلى التوصيف القانوني، وهذا -في تقديري- ليس ضعفًا، بل ردعٌ دبلوماسي متقدّم؛ تحويل الصراع من منطق القوة إلى منطق الكلفة السياسية.. فكلما ازداد توصيف الحوثيين كـ"ذراع غير شرعية"، كلما أصبحت إيران طرفًا مكشوفًا أمام الرأي العام الدولي.

الخطاب لا يهدد بالحرب، بل يجعل استمرارها مكلفًا للمموّلين، وهذا هو الردع الحقيقي في زمن الإنهاك الإقليمي.

في حديثه عن القضية الفلسطينية، حافظ العليمي على اتزانٍ نادر؛ تأكيدٌ للموقف العربي المبدئي، دون انزلاق إلى خطاب المواجهة أو المزايدة.

هذا التوازن يمنح اليمن موقعًا رمزيًا قادرًا على مخاطبة الجميع دون الاصطدام بأحد -وهي، في تقديري- سُموٌّ دبلوماسي بامتياز، حيث تُمارس السياسة كفنٍّ للموازنة لا للمفاصلة.

وأشار الرئيس في خطابه إلى القضية الجنوبية بوصفها أساسًا لحلٍّ شامل، ليست تنازلًا بل صيغة إدماج سياسي محسوبة.

وكما أشرت في مقالات سابقة، فإن تسوية الداخل شرط لتحييد الخارج، وأن التناقضات الداخلية هي الثغرة التي تتسلل منها التدخلات.

العليمي، عبر لغته المتوازنة، يسعى لتحويل الانقسام إلى مشروع وطني قابل للتفاوض، لا إلى تهديد دائم لوحدة القرار.

تكرار مفردات مثل "مؤسسات الدولة"، "سيادة القانون"، "الشفافية" ليست تفاصيل بل رسائل رمزية للدبلوماسية العالمية.

الرئيس يقول للعالم: اليمن ليست استثناءً، بل دولة تحاول استعادة مكانها في النظام الدولي وفق قواعده، لا على هامشه.

في هذا الطرح، يلتقي منطق العليمي بمنطق كيسنجر في أن الشرعية الحقيقية لا تأتي من الحروب، بل من القدرة على إدارة السلام.

ختامًا.. من يقرأ خطاب الرئيس العليمي بعين الواقعية، سيدرك أنه لم يُلقِ كلمة احتفالية، بل رسم خريطة بقاء.. لقد أعاد تعريف موقع اليمن بين جيرانه، وفتح مسارًا تفاوضيًا مع العالم، ووجّه رسائل قانونية إلى خصومه.

الخطاب في جوهره ليس إعلانًا عن موقف، بل تصميمٌ لمعادلة جديدة: تحالف بلا تبعية، سيادة بلا عزلة، وانفتاح بلا تفريط.

وكما كتبت قبل أيام: "القائد الحقيقي لا يصنع السلام بالنيات، بل بإدارة التوازن بين ما هو ممكن وما هو ضروري". 

الرئيس رشاد العليمي، في خطابه الأخير، بدا أقرب إلى هذا التعريف مما قد يدركه خصومه أو حتى بعض أنصاره.