شعار “قلل، أعد الاستخدام، أعد التدوير” خدعة بيئية.. إصلاح النظام الاقتصادي أهم من فصل القمامة في المنازل

(أبين الآن) متابعات
الشركات الكبرى تُضلل العالم بشعار "إعادة التدوير" لإخفاء مسؤوليتها المناخية
تغيير النظام وليس تغير المناخ
على مدى أكثر من نصف قرن، ترسّخ في الوعي البيئي العالمي شعار بسيط ومألوف: «قلل، أعد الاستخدام، أعد التدوير» (Reduce, Reuse, Recycle).
ظهر هذا الشعار في سبعينيات القرن الماضي كنداء عالمي لحماية البيئة من التلوث والإفراط في الاستهلاك، لكنه، بمرور الوقت، تحوّل إلى أداة دعائية خادعة تستخدمها الشركات الكبرى لتجميل صورتها وتحميل الأفراد عبء أزمة لم يخلقوها.
هذا ما يؤكده الباحث الجنوب أفريقي أليكس لينفيرنا، الزميل بجامعة فورت هير، والناشط في ائتلاف العدالة المناخية في جنوب أفريقيا، في مقال تحليلي نشره عبر منصة The Conversation Africa.
ويصف لينفيرنا الشعار الأشهر في التاريخ البيئي بأنه “أكبر عملية غسيل بيئي (Greenwashing) مارستها الشركات الكبرى لتبرئة نفسها من جرائم المناخ”.
من المسؤول الحقيقي عن الأزمة؟
يقول لينفيرنا إن جذور هذا الخطاب البيئي “المُلطّف” تعود إلى شركات الوقود الأحفوري التي أنفقت ملايين الدولارات على حملات علاقات عامة لإقناع الناس بأن الحل بيد المستهلكين لا المنتجين، وبأن الأزمة البيئية نتاج أنماط استهلاك فردية، لا منظومات اقتصادية قائمة على الاحتكار والاستغلال.
ويشير الباحث إلى أن الانبعاثات الناتجة عن السلوك الفردي لا تتجاوز 20% من إجمالي الانبعاثات العالمية، بينما 80% تقريبًا تأتي من الأنظمة الصناعية والبنى التحتية وشبكات الطاقة والنقل والتصنيع، وهي قطاعات لا يملك المواطن العادي أي سلطة عليها.
ويرى أن هذه الاستراتيجية الاتصالية المضللة تهدف إلى إبعاد الأنظار عن الجناة الحقيقيين، أي الشركات والحكومات المتواطئة معها، من خلال تصوير الأزمة بوصفها مسؤولية أخلاقية فردية بدلاً من كونها قضية سياسية واقتصادية هيكلية.
من “ثلاثة آرز” إلى “ثلاثة بدائل”: إصلاح جذري لا تجميل
يطرح لينفيرنا بديلًا ثوريًا للشعار القديم يقوم على ثلاث كلمات جديدة تمثل جوهر التحول المنشود:
التنظيم (Regulation)، وإعادة التوزيع (Redistribution)، والتعويضات أو الجبر البيئي (Reparations).
1. التنظيم: كبح جماح الملوثين
يرى الباحث أن الخطوة الأولى نحو التحول الحقيقي هي تنظيم الصناعات الملوِّثة عبر تشريعات ملزمة، وليس الاكتفاء بالالتزامات الطوعية أو الوعود غير القابلة للتحقق.
فبعد عقود من التعهدات البيئية “الرمزية”، ما زال معظم عمالقة النفط والفحم والغاز يستثمرون في مشروعات توسعية تزيد من الاعتماد على الوقود الأحفوري، رغم علمهم بأن العالم يمتلك بالفعل أكثر من ضعف الكمية التي يمكن حرقها دون تجاوز عتبة الكارثة المناخية.
ووفق دراسة حديثة شملت 23 ألف شركة في 129 دولة، تبين أن 75% منها لا تمتلك خططًا رسمية لخفض الانبعاثات، ما يعكس غياب الإرادة الحقيقية داخل القطاع الخاص ما لم يُجبر على ذلك عبر القوانين.
الصناعات الملوِّثة
2. إعادة التوزيع: تمويل التحول العادل
أما الركيزة الثانية، إعادة التوزيع، فتعني إعادة توجيه الثروة من الشركات المدمرة للبيئة إلى مشروعات تنمية عادلة بيئيًا واجتماعيًا.
ويضرب لينفيرنا مثلًا بالنقابات العمالية في جنوب أفريقيا (كوساتو و”صافتو”) التي طرحت فكرة فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى والتلوث والمعاملات المالية لتمويل “التحول العادل” للعمال والمجتمعات المتضررة من التحول الأخضر.
ويرى أن مثل هذه السياسات الضريبية التقدمية يمكن أن تصبح نموذجًا يحتذى في دول الجنوب العالمي، خاصة في أفريقيا، حيث يمتلك 10% من السكان أكثر من 80% من الثروة.
ويؤكد أن العدالة المناخية لا يمكن تحقيقها دون عدالة اقتصادية تعيد توزيع الموارد لمصلحة المجتمعات التي دفعت ثمن الأزمة دون أن تسهم فيها.
اقتصاد إدارة الموارد
3. التعويضات: إصلاح إرث الاستعمار البيئي
أما الركيزة الثالثة، التعويضات (Reparations)، فتتناول البعد التاريخي للأزمة، إذ يرى لينفيرنا أن التغير المناخي نتاج مباشر لقرون من الاستعمار والاستخراج الممنهج لثروات الجنوب لصالح الشمال الصناعي.
ويشير إلى أن أفريقيا هي الأقل مسؤولية عن الانبعاثات الكربونية لكنها الأكثر تضررًا منها، سواء عبر موجات الجفاف والفيضانات أو عبر فقدان الموارد الزراعية والمائية.
لذلك، يجب أن تشمل العدالة المناخية إلغاء ديون الدول الفقيرة، ونقل التكنولوجيا النظيفة إليها، وتوفير تمويل من الدول الغنية بوصفه “ردًّا للديون التاريخية” لا منحًا مشروطة.
ويقتبس لينفيرنا من الفيلسوف النيجيري أولوفيمي أو. تاييو قوله إن “التعويضات ليست مجرد تحويل مالي، بل مشروع لبناء عالم جديد يقوم على العدالة الاجتماعية والإيكولوجية، بدلًا من الاستغلال والتقسيم”.
نشطاء يطالبون بالعدالة المناخية
ما بين الأخلاق الفردية والعدالة الهيكلية
ويشبه الباحث هذا النهج بخطاب بعض الكنائس في عهد الفصل العنصري، التي ألقت اللوم على الفقراء ووصفت فقرهم بأنه “عقاب إلهي”، متجاهلة أن النظام نفسه صُمم لإفقارهم.
وبالمثل، يرى لينفيرنا أن شعار “قلل، أعد الاستخدام، أعد التدوير” يجعل الأفراد يشعرون بالذنب البيئي، بينما يُبقي النظام الاقتصادي القائم على الوقود الأحفوري في مأمن من المساءلة.
ويضيف أن أزمة المناخ ليست مشكلة “سلوك فردي” بل مشكلة بنيوية متجذرة في الرأسمالية الصناعية، ولا يمكن معالجتها إلا عبر تحول نظامي شامل يغير طريقة الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الثروة.
ويؤكد أن فترة جائحة “كوفيد-19” قدّمت درسًا واضحًا: فعندما توقفت الطائرات والسيارات والمصانع مؤقتًا عام 2020، انخفضت الانبعاثات بنسبة 8% فقط، وهو انخفاض غير كافٍ على الإطلاق للوصول إلى الحياد الكربوني.
ما يعني أن الإجراءات الفردية مهما بلغت لن تنقذ الكوكب ما لم تترافق مع تغيير هيكلي جذري.
خفض كثافة الانبعاثات هدف حيوي
نحو أخلاق بيئية جديدة
يدعو لينفيرنا إلى تجاوز منطق الشعارات السطحية نحو أخلاق بيئية أكثر واقعية وإنصافًا، تقوم على فهم العلاقات بين الاقتصاد والسياسة والطبيعة، لا على تحميل المستهلكين ذنب ما تصنعه الشركات.
ويقول إن “المطلوب ليس أن نعيد تدوير المخلفات فقط، بل أن نعيد تدوير النظام نفسه”.
ويختم بالقول إن “النضال البيئي الحقيقي هو نضال من أجل العدالة، والمواطنة البيئية لا تُقاس بعدد الزجاجات التي نعيد استخدامها، بل بقدرتنا على محاسبة من يلوثون الأرض باسم التنمية والربح”.