تحرّر من أسر “الأنا”؛ تشرق روحك بنور الله
في زمن تتصارع فيه الأصوات، وتتعالى فيه الصور، وتزدحم الأرواح في ميدان المظاهر والغرور؛ نحتاج أن نلتفت قليلا إلى الداخل؛ إلى أعماقنا المنسية، إلى تلك المساحة التي ما عادت تسمع إلا صدى “أنا” المتضخمة، ووقع خطوات النفس وهي تدور حول ذاتها لا حول ربها.
فكم نحن بحاجة اليوم إلى أن نحفر في ذواتنا؛ لا بحثا عن وجهٍ نعرضه للناس؛ بل عن نورٍ نحرره من أسر الأنا، ونُطلقه في فضاء السكينة، والإخبات، واليقين!
“الأنا” ليست جسدا تلمسه اليد، ولا اسما يُكتب في بطاقة الهوية؛ بل وهمٌ يتسلل إلى القلب، فينفخ فيه كِبرا، ويغمره غفلة، ويقيّد روحه بسلاسل التمركز حول الذات. هي الصورة التي نخاف على انكسارها، والشعور الزائف بالعظمة، والرغبة في التفوق؛ لا لأجل الحق؛ بل لأجل الظهور.
قال تعالى عن إبليس حين رفض السجود لآدم: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [ص: 76]. بدأ بإعلان “أنا”؛ فكانت أول كلمة تُخرج صاحبها من رحمة الله! ومن تلك اللحظة؛ صار الكبر أول معصية في الوجود، وصار أصل كل انحراف عن العبودية.
الفرق بين أن تعرف قدرك، وأن تُعجب بنفسك؛ كالفرق بين التواضع والمهانة. والإسلام لا يدعوك إلى احتقار ذاتك؛ بل إلى معرفتها بحدودها، والاعتراف بفضل الله عليك. قال ابن القيم: “التواضع أن تعرف قدر نفسك؛ فلا تتعدى بها حدّها، ولا تطلب لها ما ليس لها”؛ فمن عرف نفسه عبدا؛ لم يتكبر، ومن نسي عبوديته؛ غرق في “أنا”.
قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: 146]؛ فحين تسكن “الأنا” في القلب؛ تُغلق نوافذ النور. لا يرى الحق، ولا يخشع، ولا يعود.
والكبر أصل الغرور، والغرور يمنع التوبة؛ لأن التائب لا بد أن ينكسر، ومن امتلأ بالأنا؛ لا ينكسر. قال ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر» [مسلم]؛ ذرة واحدة من الأنا؛ قد تحرم صاحبها من الجنة!
إبليس قال: “أنا خيرٌ منه”؛ فهلك. وفرعون صاح: “أنا ربكم الأعلى”؛ فغرق، وقارون قال: “إنما أوتيته على علمٍ عندي”؛ فخُسف به وبداره الأرض.
تلك “الأنا” التي قال عنها الحسن البصري: “ما أطال عبد النظر في فضل نفسه إلا سقط من نظر الله”.
ما ارتفع عبدٌ عند الله بكثرة صلاةٍ ولا طول ركوعٍ؛ كما ارتفع من عرف نفسه، وتخلّى عنها؛ طلبا لرضا ربه. قال ﷺ: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه».
إنها ليست إعجابا بمال أو بجمال أو بمنصب؛ بل بالنفس ذاتها؛ فمن أعجب بها؛ حجَبها عن الله، ومن رآها صغيرة بين يدي عظمة ربه؛ قرُب منه واطمأن.
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ [الشمس] وتزكية النفس ليست كثرة الذكر فحسب؛ بل تطهيرها من شوائب العُجب، وتحريرها من عبادة الذات؛ أن تقول بصدق: “اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين”؛ ولذلك كان عمر بن الخطاب يقول لنفسه إذا وجد فيها كِبرا: “ويحك يا عمر! كنت راعيا للإبل في مكة!”. وهكذا يُهدم صنم “الأنا” من الداخل.
ذاتك الحقيقية ليست في اسمك، ولا شهادتك، ولا في عدد متابعيك؛ إنما في صفاء قلبك، وخشوع سجودك، وصدق نيتك. قال ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالك؛، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [مسلم]. فما قيمتك عند الله: إن لم تكن روحك خاشعة له؟! وما وزنك في الميزان! إن كانت “أنا” هي الإله الذي تعبده من دون أن تشعر؟!
وليس التحرر أن تملك القرار؛ بل أن تملك نفسك حين تغضب، أن تصمت حين ترتفع “الأنا”، أن تبتسم حين تُنتقد، أن تعمل بصمت؛ لا تنتظر عليه مديحا. قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)﴾ [الإنسان]. ذلك هو التحرر الحقيقي؛ أن تعمل لله وحده، وتزهد في ثناء الناس.
ولكسر الأنا ثمار؛ منها:
- سكينة في القلب؛ لأنك لم تعد تنازع الله في الكبرياء.
- رحمة بالناس؛ لأنك لا تراهم دونك.
- قبول بالقدر؛ لأنك خرجت من دائرة “أنا أستحق”، إلى دائرة “ربي أعلم وأحكم”.
- صفاء في النية؛ لأنك لم تعد تبحث عن المديح؛ بل عن الرضا؛ ولذلك قال الفضيل بن عياض: “ما من أحد أحبّ أن يُذكر إلا سقط، وما من أحد كره الذكر إلا رُفع”.
فتحرر من أسر الأنا؛ قبل أن تُسجن فيها. واكسر مرآة الوهم، وانظر إلى نفسك بعين العبد؛ لا بعين السيد؛ فحين تنكسر بين يدي الله؛ تكتشف أنك ما كنت ضعيفا؛ بل كنت حرّا لأول مرة.
فيا من يبحث عن ذاته! لن تجدها في الناس، ولا في المنصب، ولا في المظاهر؛ بل في سجدة خاشعة، ودمعة خفية، وذكر صادقٍ في ظلمة الليل. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].
وفقني الله وإياكم للتحرر من "الأنا"؛ لتشرق أرواحنا بنور الله، ودمتم سالمين!


