شرف الخصومة.. حين يصبح الاختلاف الراشد مصدر قوة لا سبب عداوة!
ليس النُبْل أن يخلو المرء من خصوم، بل أن يُحسن إدارة الخصومة حين تقع. فالمجتمعات الحية لا تُقاس بغياب الخلاف، وإنما بقدرتها على تحويله من وقود للصراع إلى طاقة للبناء. ومن هنا تأتي الحاجة إلى إرساء ثقافة النُبل في الخصومة والخلاف والاختلاف، بما يجعلها أداةً للتوازن لا سلاحًا للهدم.
بين الخلاف والعداوة
من الضروري التفريق بين العداوة التي تهدف إلى الإقصاء والتدمير، وبين الخلاف في الرأي الذي قد يُثري الحوار، والاختلاف في الموقف الذي يعكس تنوّع المصالح والزوايا. فالقول: "أنا أخالفك في الرأي" لا يعني العداء لصاحب الرأي، بل ممارسة للحرية في رؤية مغايرة. إن هذا التمييز يحول دون الانزلاق إلى شيطنة المختلف أو التعامل معه كعدو داخلي. وقد لخّص الإمام علي رضي الله عنه هذه الحقيقة بقوله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
وهنا يبرز الفارق بين الخصومة والعداوة في السياق السياسي. فالديمقراطية الحقيقية تنظّم الخصومة وتحوّلها إلى منافسة مشروعة داخل النظام السياسي، لكنها لا تُشرعن العداوة بين الأطراف. فالخصوم السياسيون يتنافسون على إدارة الشأن العام ضمن عقد اجتماعي واحد، بينما الأعداء يسعون إلى نفي بعضهم خارج هذا الإطار.
الفجور في الخصومة وخطورته
أخطر ما يواجه أي مجتمع هو الفجور في الخصومة: تجاوز حدود العدالة، واللجوء إلى التشويه والافتراء والخصومة المدمّرة. وهذا ما حذّر منه الحديث الشريف: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِم». فحين تُختزل الخصومة في الكيد وإسقاط الآخر، تُحرق جسور الثقة وتتحول المنافسة السياسية أو الفكرية إلى معركة صفرية، حيث لا غالب فيها إلا الخراب.
التعددية السياسية وضوابطها
حين تنتقل الخصومة إلى المجال السياسي والحزبي، تصبح الحاجة ماسّة إلى إطار قانوني ومؤسسي يضبطها. فالتعددية لا تعني الفوضى، بل تعني وجود قواعد تمكّن الجميع من التنافس النزيه من دون الانحدار إلى شيطنة الخصم أو تجريم المختلف. الديمقراطية بهذا المعنى ليست إلغاءً للتباينات، بل تحويلها إلى آليات لإدارة التنوع. فالمجتمع لا ينهض بإقصاء الأصوات المغايرة، وإنما بتوفير ساحة متكافئة للتعبير والتداول.
مزالق ادعاء احتكار الحقيقة
من أبرز ما يُضعف الحياة العامة ادعاء أي طرف امتلاك الحقيقة المطلقة. فالحقيقة متعدّدة الأبعاد، ورؤيتنا لها نسبية. ادعاء احتكارها لا يؤدي إلا إلى الاستبداد الفكري والسياسي، ويغلق الباب أمام الحوار والتصحيح. وقد حذّر كارل بوبر من هذا الميل حين أكد أن المجتمعات المنفتحة وحدها قادرة على تصحيح أخطائها بالنقد والتداول الحر. أما المجتمعات التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فإنها تنزلق إلى الجمود والانغلاق، وتفقد القدرة على النمو والإصلاح. وهنا يجدر بنا أن نستعيد قول الإمام علي أيضًا: «إنما يُعرف الرجال بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال».
من الخصومة إلى الوعي والعدل
الخصومة النبيلة ليست ساحة للتدمير، بل مختبر يكشف معادن الرجال ويُصقل الوعي الجمعي. كثيرون كسبوا معارك وخسروا أنفسهم، فيما خلد آخرون لأنهم أداروا خلافاتهم بكرامة وعدالة. وهنا يلتقي التراث العربي بحكمة الفلاسفة: فقد قال ماركوس أوريليوس: «أعظم انتقام هو ألّا تكون شبيهًا بعدوك»، فيما ذكّر غاندي بأن «العين بالعين ستجعل العالم أعمى بأسره». هذه الدعوات جميعًا تتقاطع عند حقيقة واحدة: أن القوة الحقيقية ليست في القدرة على الإيذاء، بل في القدرة على ضبط النفس واختيار العدل.
الخاتمة: نحو وعي راشد بالاختلاف
إن ترسيخ ثقافة النُبل في الخصومة، وضبط الخلاف بميزان العدل، هو الأساس لأي نهضة سياسية أو اجتماعية. شرف الخصومة ليس ضعفًا، بل ذروة القوة: أن تمتلك القدرة على الإيذاء ثم تختار العدل، وأن تُحافظ على إنسانيتك حتى في أشد لحظات النزاع. فالاختبار الحقيقي ليس في الانتصار على الآخرين، بل في الانتصار على نوازع النفس، والخروج من معاركنا أكثر نضجًا وإنصافًا وشرفًا.