كيف تكون السكينة في زمن العواصف؟

بقلم: حسن الكنزلي

في زمن تتقاذف فيه الأرواحَ أمواجُ القلق، وتطحن النفوسَ طاحونةُ الصراعات اليومية، أصبح الهدوء عملة نادرة، يبحث عنها الناس في كل مكان، ولا يجدونها في الأسواق ولا في الشاشات.

عصرٌ تضجّ فيه الأصوات، وتغرق العقول في الأخبار، وتضيع فيه السكينة بين مطالب الحياة وضغوطها، حتى صار كثيرون يظنون أن الطمأنينة تُشترى، وأن السعادة تُصنع من مظاهر الرفاهية؛ لكن كم من غني لا ينام! وكم من مشهورٍ يبتسم للعالم وداخله عاصفة لا تهدأ!

الحقيقة التي يغفلها الناس أن الطمأنينة ليست في الجيب؛ بل في القلب؛ ليست في الثراء؛ بل في الصفاء؛ وأن السكينة ليست رفاهية نفسية؛ بل عبادة قلبية، يمنحها الله لمن امتلأ يقينا وتسليما. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 4].

السكينة في القرآن ليست هدوءا عابرا؛ بل مقاما روحيا عظيما. هي أن يثبت قلبك حين تضطرب الأرض، وأن يضيء إيمانك حين يشتدّ الظلام.

انظر إلى إبراهيم عليه السلام وهو وسط النار، يقول الله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69]. نار تشتعل من حوله، وقلب ساكن مطمئن.

وانظر إلى موسى عليه السلام والبحر أمامه والعدو خلفه، يقول بثقة المؤمن: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].

وانظر إلى محمد ﷺ في الغار، وقد أحاط به الخطر من كل مكان، فيقول لصاحبه: ﴿... لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾

[سورة التوبة: 40].

هكذا تكون السكينة؛ إيمانٌ لا تهزّه الرياح، وثقةٌ لا تنكسر أمام العواصف.

السكينة تبدأ من الفهم؛ أن تعرف لماذا خُلقت، وأن ترى وراء الأحداث يدا حكيمة لا تغيب. قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].

ثم يأتي الرضا؛ لأن القلق يولد من الاعتراض، والسكينة تُولد من التسليم. قال الحسن البصري: “من رضي بقدر الله؛ جرى عليه وكان له أجر، ومن سخط؛ جرى عليه وكان عليه وزر”.

ومن أسرار السكينة أيضا أن تعيش الحاضر، لا الماضي ولا المستقبل؛ فالنبي ﷺ قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»؛ فالذي يسكن في الأمس يندم، والذي يهرب إلى الغد يقلق، أما الذي يعيش يومه بوعيٍ وذكرٍ وثقةٍ، فقد ذاق طعم الجنة في الدنيا.

وحتى تزرع السكينة في نفسك:

- ابدأ بضبط نفسك قبل ضبط العالم؛ فالقوة الحقيقية ليست في السيطرة على الآخرين؛ بل في السيطرة على النفس. قال ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

- تعلم فنّ الهدوء والتفكير الواعي؛ فالمؤمن يدرك مشاعره؛ لكنه لا ينقاد لها. يغضب؛ لكنه لا يؤذي؛ يخاف؛ لكنه لا ينهار. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم”.

- انظر إلى البلاء بعين الإيمان؛ فما يراه الناس نقمة، قد يكون نعمةً في ثوب ابتلاء. قال ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير...».

- نظّم حياتك وعلاقات؛ فوضى الحياة تولّد اضطرابًا، والنظام يمنح راحة. والصحبة الصالحة تبعث فيك السكينة. قال ﷺ: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».

- اشتغل بما ينفعك واخدم الناس؛ من عاش لغيره؛ وجد نفسه. ومن فرّج عن غيره؛ فرّج الله عنه. قال ﷺ: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس».

وهناك وسائل عملية تهدي القلب؛ منها:

- الذكر والتلاوة: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].

- الصلاة والخلوة بالله؛ فمأوى المرهقين وميناء الباحثين عن السلام.

- التخطيط والنظام؛ فالوقت المنظم يطرد التوتر.

- الرياضة والاعتدال؛ فالجسد بوابة النفس.

- الامتنان والكتابة؛ فمن شكر القليل؛ رُزق الكثير.

 والإسلام قد سبق علم النفس إلى ما يسميه علماء النفس اليوم بـ"التأمل الواعي" و"الصفاء الذهني"، سماه القرآن منذ قرون: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 28]؛ فالسكينة في الإسلام ليست انسحابًا من الواقع؛ بل قوة هادئة تواجهه بعين الإيمان، وتفسر الألم بحكمة الرحمة. ولذلكةقال ابن القيم: “في القلب فاقة لا يسدها إلا ذكر الله، فإن هو ذُكر سكن، وإن نُسي اضطرب”.

والخلاصة:

- أن السكينة ليست غياب العواصف؛ بل القدرة على الوقوف بثباتٍ وسطها.

- وليست في أن تتغير الدنيا؛ بل في أن يتغير قلبك تجاهها.

- هي عطية من الله؛ لا تُمنح إلا لقلبٍ مؤمنٍ عاملٍ ذاكرٍ شاكر...

- ومن جعل قلبه بيتا لله؛ جعل الله قلبه موطنا للسكينة.

رزقني الله الله وإياكم السكينة وفي خضم الواصف!

ودامت سلامة الجميع!