الإعلام رسالة أم وظيفة؟
كتب/ أبو زين ناصر الوليدي
هناك من يسمي الإعلام ( *السلطة الرابعة)* بمعنى أنه وهو المجرد من كل أدوات السلطة إلا أنه يأتي في الترتيب بعد السلطة التشريعية والتنفيذية القضائية بما له من تأثير على قرار السلطات الثلاث، وما له من سطوة في توجيه الرأي العام الشعبي، وربما يكون التعبير عن الإعلام بأنه السلطة الرابعة في زمن مضى، أما اليوم فالإعلام يأتي في درجة( *فوق السلطة)*.
ولهذا فالدول والأحزاب والجماعات والمنظمات والمؤسسات لا تستغني عن الإعلام كسلاح ناعم بيدها تنفذ من خلاله مشاريعها وأجنداتها وتحقق به أهدافها .
ولقد كان هذا هو ديدن *( الكلمة)* من قديم الزمان، واحتاج الإنسان أن يعبر عن نفسه ومطامعه ومشاريعه من خلال الإعلام شعرا ونثرا قبل أن تعرف البشرية الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، فكان لكل قبيلة أو قوم جهازهم الإعلامي المتمثل في شاعر أو شعراء القبيلة وخطبائها، وكان السادة والوجهاء يحرصون على كسب أصوات الشعراء لما لكلماتهم من تأثير على الساحة في ذلك الوقت، ولعلنا نتذكر الدور الإعلامي للشاعر زهير بن أبي سلمى في الإشادة بموقف هرم بن سنان والحارث بن عوف اللذين أوقفا حرب داحس والغبراء، وقد طار ذكرهما وسار مسير شمس جزيرة العرب، وأصبح ذكرهما على كل لسان وإلى يوم الناس هذا، فكانت العرب كلها تردد مع زهير:
لعمري لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم.
وقال زهير يمدح هرم بن سنان أيضا:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا
مرزءون بهاليل إذا قصدوا
محسدون على ما كان من نعم
لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
فكان زهير يمثل (قناة فضائية) يمتلكها هرم بن سنان جعلت من هرم بن سنان أسطورة عربية تدور على كل لسان وكسب هرم من شعر زهير مجدا عظيما وشرفا كبيرا عاد عليه بالكثير والكثير، ولهذا حلف هرم أن لا يدخل عليه زهير ويسلم إلا أعطاه عبدا أو أمة أو فرسا أو مالاً حتى كثر العطاء بيد زهير واستحىى، فكان إذا دخل وفي القوم هرم يقول : عمو صباحا غير هرم، وخيركم استثنيت.
مات هرم بن سنان قبل الإسلام وبقي صداه يتردد متجاوزا الزمان والمكان ومات زهير وبقيت كلماته خالدة يدرسها الطلاب في المدارس والجامعات العربية والإسلامية ومع شعره يتردد اسم هرم بن سنان.
ولما وفد ابن هرم بن سنان على عمر بن الخطاب قال له عمر : لقد أجزل فيكم زهير القول.
قال : لإنا كنا نجزل له العطاء ونكسوه الحلل.
فقال عمر : لقد ذهب الذي أعطيتموه وبقي الذي أعطاكم، ولقد كساكم حللا لا يبليها الدهر.
ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأسس دولته الوليدة كان له جهاز إعلامي كبير يتمثل في (ثلاثين شاعر) كما ذكر ذلك صاحب كتاب (رحمة للعالمين) غير الخطباء المفوهين, فكان هذا الجهاز ينشر محاسن الإسلام ويخرج مع الجيوش ينكيء العدو ويبث فيهم الرعب ويزلزل قناعاتهم ويفت في عضدهم ويشجع المقاتلين ويرفع معنوياتهم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل كلمات حسان بن ثابت أشد أثرا على قريش من سيوف المهاجرين والأنصار فقال عن شعر حسان " *لهو أشد عليهم من وقع النبال"*
وانظر كيف كان أثر كلمات كعب بن مالك على قبيلتي دوس وثقيف وهو يقول:
قضينا من تهامة كل وتر
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن دوسا أو ثقيفا
وعندما كنت أقرأ الآيات الأخيرة من سورة الشعراء أشعر بالحيرة وأقول في نفسي هل الإسلام يقف من الشعر موقفا سلبيا عندما يقول :
" *والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون* " الآية.
وزال عجبي وتبددت حيرتي عندما فهمت أن الشعراء في زمن نزول الوحي يمثلون ( *الإعلاميين* ) وكأن الآية تقول: والإعلاميون يتبعهم الغاوون.
بمعنى أن الإعلاميين يغلب عليهم اتخاذ الكلمة مهنة للتكسب والارتزاق وهذا كان حال معظم الشعراء عبر التاريخ إلا القليل.
والمشاهد في زماننا هذا حجم ما تدفع الدول للإجهزة الإعلامية وما تنفق على الإعلاميين، فحولتهم بهذه الأموال إلى أدوات ناعمة تؤثر على العقل وتصنع الرأي العام وتمهد لتنفيذ كل أهداف تلك الدول أو المؤسسات،
وهكذا أصبح الإعلامي أداة خطيرة قد تتسبب في محاربة الحق والخير وتلميع الباطل وتجريم البريء وتشويه الشريف ونشر الفاحشة وتزيين المنكر وتمزيق الصف وسفك الدماء وهتك الأعراض، وبهذا يزول عجبك حينما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الإعلاميين (الشعراء) يوم الفتح وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة، وذلك لأنهم كانوا شركاء في كل جرائم قريش، وفي جمهورية روندا حكمت المحاكم بإعدام بعض الإعلاميين لدورهم الإجرامي في المذابح الشهيرة.
إن حرية الإعلام لا تبيح للإعلامي _ مهما دفعت له من أموال- أن يكون شريكاً في أي جريمة ولا مساهما في تزوير الحقائق، ولا مساعدا في نشر الرذائل في مجتمعه.
فالإعلام قبل أن يكون وظيفة فهو رسالة تسهم في تعزيز الخير وجمع الكلمة وتوحيد الصف وحقن الدماء وستر الناس ونشر الجوانب الإيجابية في المجتمع وتشجيعها والحد من الخلاف ومحاربة الجهل والتخلف وتطوير الوعي وتعزيز الثقافة النظيفة.
وهذه رسالة لكل إعلامي أن يضع نفسه في المربع الذي يرضاه الله وتدعمه القيم فلا يكون للخائنين خصيما ولا للمجرمين ظهيرا.
.